المنسف في طبق صغير .. د. طارق المجالي
18-08-2010 01:27 AM
قد تكون هذه المقالة مستفزة لنفر يؤمنون بتحنيط العادات والتقاليد على مبدأ( الصبة الخضرا) فهي من التابوه المحرم التي لا يجوز مساسها أو محاولة التفكير في زحزحتها ولو قليلا لتتناسب مع طبيعة واقعنا الحاضر وزمننا الذي نعيش .
وهذا لا يعني الانبتات أو الانقطاع عن موروثنا الاجتماعي الذي فيه من جوانب الكمال ما نتفاخر ونتباهى به ، ولا يمكن أن نتخطاه لصلاحه وجدواه ،ولأنه صار مكونا جينيا فينا نتوارثه جيلا فجيلا .
غير أنني هنا أشير إلى ضرورة تطوير طريقة التفكير في معالجة بعض هذه العادات والتقاليد التي دأبنا عليها إذ إنه من غير المعقول أن تبقى دون تبديل أو( تقليم) طوال هذه السنوات ونجبن أمامها ونحن نصرخ صباح مساء من آثارها الاقتصادية والصحية والبيئية .
إنه المنسف يا سادة يا كرام ، لصيق الأردنيين في حلهم وتر حالهم ، ورفيق دربهم في سرائهم وضرائهم ، وصانع تراثهم وأمجادهم ، وناقل صيتهم ومفاخرهم . وهنا لا أود أن أقارن واقع معيشتنا بماضي المنسف الذي كان ضرورة اجتماعية واقتصادية فرضتها ظروفهم الاجتماعية لعدة أسباب منها : بيئة البادية الأردنية التي حتمت عليهم هذا الطراز من الأكل، فالماشية وبيوت الشعر وعدم وجود أنواع من الخضراوات والفواكه ونقص حاد في إمكانية الحصول على أدوات الطعام : الملعقة والسكين والشوكة والصحون . والدليل على هذا أنك قد تبحث في ( العرب – مجموعة بيوت الشعر المتجاورة ) عن لوح من الصابون فلا تجده !!
ومن الواضح أن يتفق الجميع أمام نوع واحد من الطعام يناسب هذه البيئة ويحقق لهم توازنهم الاجتماعي والنفسي إذ ليس من المعقول أن تطلب منهم أن يأكلوا بالملعقة والسكين وهما غير موجودتين وليس من المنطقي أن تطلب منهم أن يأكلوا فرادى وهم يؤمنون بضرورة الحاجة إلى الجماعة والالتفاف حول طبق واحد كبير يحقق لهم مثل هذا التوازن والتكيف الاجتماعي والقبلي الذي يؤمن بأن الفرد لا وجود له إلا من خلال الجماعة .ولقد كان المنسف سيد الوجبات بل أوحدها لذلك كان من المضحك أنه حين بدأ الأردن باستقبال إخوانهم من اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 واستضافتهم كان وجه استغرابهم ودهشتهم وجود لون واحد ونسخة مكررة هي المنسف في كل استضافة ، وكأنهم كانوا يسألون أنفسهم أين : الباميا أو الملوخية أو الفاصوليا الخضراء !!
كل بيئة في العالم ولها ما يناسبها من طعام شعبي وهذا لا خلاف عليه ، ولكن الخلاف هو : ألا يمكن لنا ونحن نصرخ جوعا وفقرا من أن نطور في كيفية تقديم هذه الوجبة المقدسة ؟ وسأحاول تقديم آليات عملية منها وأهمها :ضرورة تقديم المنسف في طبق و(لنترك التفاخر الكاذب لأننا نعرف طرق الحصول على تكاليف الدعوة ) وهنا أرفع عقيرتي لأقول : ( الصحن هو الحل) ففيه يأخذ الشخص كمية طعامه دون زيادة ، فهو الأنظف لأنه يؤكل بالملعقة لا بالأيدي المختلطة بكافة أنواع الميكروبات وخصوصا في هذا العصر المليء بالأمراض الجلدية ،وتجسسا مني راقبت في (عرس) ما و قبل تقديم الطعام بعشر دقائق، وفي لقطات سينمائية مبعثرة لحركة أيدي الحضورقبل الشروع في تناول المنسف الجماعي وجدت صورا مضحكة كان من أهمها وضع السبابة في الأنف والأذن والفم أو الحك في مناطق الرأس والإبط والقدم مما يجعلك تفر من المنسف فرارك من الأسد.!! ولك بعدها أن تتصور ( المرقة الحارة والأيدي الملوثة ) !!وشخص بجانبك يصر ويقسم بالله إلا أن تأكل قطعة اللحم التي قذفها أمامك !!
والصحن هو الحل اقتصاديا : فلا كميات زائدة ولا لحوم فائضة ولا إسراف متعمد ،(ولنتذكر سعره جيدا) ونحن نمر بأقسى درجات الأزمة الاقتصادية الخانقة عالميا ومحليا فمن خلال الصحن نرشد الاستهلاك ويمكننا من حصر أعداد المدعوين إلى أية وليمة فتنتفي أسباب زيادة الكمية خوفا من الحرج ، ويأكل الضيوف ما يحتاجونه فعلا لا كما نشاهد في صورة الأكل الجماعي من شراهة زائدة وتناول مفرط وكأنها عند بعضهم الوجبة الوحيدة التي سوف يتناولها أوهي عشاؤه الأخير!! إذن فالصحن المفرد يحصر العدد والكمية ،ويضبط الإنفاق ويرشد الاستهلاك ، معتذرا سلفا بشدة إلى (ضاغطة البلدية وحاوياتها المتناثرة وقطط الحارات وكلابها وذبابها التي ستغضب عليّ كثيرا على قطع الأرزاق )!!
إن المشاهدات اليومية لما يجري في الأفراح والأتراح والمناسبات العامة وولائم المرشحين تدعونا جديا إلى وقف هذا النزيف المالي ،وهدر المال فيما لا فائدة فيه ، وصدقوني إن ما يفيض من طعام كان من الممكن أن تأكل منه أسر كثيرة ،إلا في حالة المنسف ،فإنه لا يقبل القسمة إلا على نفسه ، وفصيلة دمه ( O-) يأخذ ولا يعطي أحدا، بعد أن (يتمرغ ) الأرز باللبن ،وكيف لأحد أن يأكل منه ولو كان جائعا ، بعد أن ثار لغم في أحشائه ،وتم افتراسه بطريقة مقززة ؟!!
يا عقلاء المجتمع الأردني وحكماءه ، يا مؤسسات المجتمع المدني ، يا أعلامه وإعلامه ، يا علماء الاجتماع واقتصادييه ، مثلما تناخيتم غير مرة لمعالجة قضايا الشرف والجلوة العشائرية والزواج الجماعي، وحبرتم الوثائق بخصوصها ،فإنني أتشرف بدعوتكم لحضور خلوة ( مجدرة ) في أي بقعة أردنية تختارونها للتباحث في شأن تغيير أنماطنا المنسف السلوكية والاجتماعية وأن نتفق على منسف عصري ( رشيق ومهضوم )، ونستصدر وثيقة اجتماعية لتحجيم هذا اللعين الذي سرق جيوبنا ،وعاث في دمائنا كولسترولا ودهونا ،ويتم أطفالنا صغارا ، وخطف منا بهجة الحياة ونعيمها ومتعة المشي والحركة ،ومقاسات البنطلونات تحت الأربعين ،وأصاب شراييننا بالتصلب والتجلط .