facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




سواليف الهجيني


وليد المعابرة
14-12-2025 10:10 PM

"حين تتحوَّل الربابة إلى منصة فكريَّة"

أما قبل؛ فقد كانت آلة "الرَّبَابَة" تغزو المجالس العربيَّة القديمة وتحتلُّ مكانة شعبيَّة سامقة بين الناس، وقد تعامل معها القدماء على أنَّها أكثر من آلة موسيقيَّة، حيث كانت وسيلةً من وسائل الشعراء في تسجيل مواقف القبيلة، وحاملةً لأَسرار الفخر والعتب والغزل، فضلاً عن الهجاء والرثاء الذي يُعدُّ وثيقة تعكس وجدان القبائل والأفراد من جهة، "وصندوقاً أسود" يحكي من خلاله العازف أشعاراً تُحسم فيها الخصومات من جهة أُخرى. زيادة إلى ذلك؛ فقد كانت الربابة بمنزلة منتدى ثقافي تعاد فيه صياغة جديدة للسلوكيَّات الاجتماعيَّة، وتُبنى من خلالها موازنات القبائل الاقتصاديَّة، وقد يتعدَّى الأَمر -في بعض الأحيان- إلى أن تكون بمنزلة محكمةٍ اجتماعيَّة تُحسم فيها القضايا الخلافيَّة، ومنبرٍ يُرفع رجالاً ويهزُّ كياناً، مع إنَّها لا تحتوي إلا على وترٍ واحد؛ لكنَّ ذلك الوتر يتمتَّع بقدرة عجيبة على القصاص الاجتماعي، فذلك الشاعر يقصف بوساطته قبيلة مجاورة ببيتٍ مسموم، وهذا يُلمح لعيب أخلاقي في شيخ لا يجرؤ أحد على ذكر اسمه، (وكأَنَّها قوسٌ سهمهُ الشعر؛ وُجِد في ميدان شعبي لتصفية الحسابات الاجتماعيَّة)، فهذا يعزف قصيدة تحمل بين كلماتها وقعاً أشدُّ من السيف، وذاك يهزُّ صخرة في قلوب الرجال؛ فتُسقط وقار شيخٍ من الشيوخ، وتُعيد رسم حدود الهيبة لشيخ آخر.

وأما بعد؛ فقد خرج إِلينا –من قلب تلك البيئة- مفهومٌ شعبيٌّ يطلق عليه اسم "سواليف الهجيني"، حيث الأحاديثٌ التي تُقال على هامش جلسات الربابة، فتُضحك السامعين، وتُسلِّي المسافرين، وتُنعِش السهرات؛ لكنَّها في واقعها لا تُقدِّم أَيَّ نوعٍ من أنواع المعرفة، ولا تُنتج أَيَّ شيءٍ يُذكر من الحكمة! فهي –فقط- أحاديث تنفخ نفسها مثل الكرة المطاطيَّة ذات الحجم الكبير والمحتوى الفارغ؛ والعجيب فيها أنَّها كانت عند القدماء مجرَّد ترفٍ شعبي؛ لكنَّها تسلَّلت اليوم إِلينا فأصبحت أسلوب حياة يحوِّل "الهجيني" إلى منصَّة فكريَّة تعمل بالطريقة القديمة ذاتها؛ (كلام كثير بنتيجة قليلة، وضجيج عالٍ بلا أثرٍ يُذكر، وثرثرة تتحوَّل إلى عقيدة)؛ لكنَّ المأساة الحقيقيَّة لم تكن في الجلساء الذي يرتادون تلك المجالس ولا في المجالس نفسها؛ فقد كان معظمهم أَصِحَّاء القلوب، يعلمون جيداً أنَّ (السواليف سواليف)، وأنَّ الربابة آلة طرب وليست منصة أكاديميَّة، بل إنَّ المأساة تكمنُ في زمننا الذي تحوَّلت فيه الهواتف الذكيَّة إلى ربابات إلكترونيَّة؛ فحوَّلت كلَّ تافهٍ إلى شاعر مغوارٍ يتغنَّى بجهله، ويطرح فحولته الفكريَّة الزائفة على ساحات افتراضيَّة وعالم خيالي.

في الحقيقة إنَّنا ورثنا الهجيني؛ لكنَّنا لم نرث معه حكمة الأوائل، ولم ندرك وعيهم فيما كانوا يؤمنون به من مفاهيم الهجيني على أنَّه مجرَّد سواليف تُملأُ بها الفجوات ويُقتل فيها الوقت، فالأوائل لم يعتادوا أن يبنوا عليها قرارات الحرب، ولا يختاروا على أساسها شيخ القبيلة، ولا يخططوا من خلالها لمستقبل غامض! بعكس يومنا هذا؛ فقد ارتقى مفهوم الهجيني عندنا حتى أصبح شريكاً رسميَّاً في إدارة شؤون الأًُمة بأَكملها، فقد باتت:

السياسة العربيَّة هجيني!
والاقتصاد هجيني!
والفزعات العشائريَّة هجيني!
واختيار مجالس التشريع هجيني!
والنقاشات الثقافيَّة هجيني!
والتحليلات الاجتماعيَّة هجيني!
‏ والحوارات الوطنيَّة هجيني!
ومخطَّطات التعليم هجيني!
و إدارة شؤون البشر هجيني!
وطريقة غرس القيم هجيني!
وإقرار الموازنات هجيني!
والبحث العلمي في العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة هجيني!

حتى أنَّ الدين نفسه أصبح عند البعض مجالاً مفتوحاً لسواليف الهجيني التي لا تستند -في معظم الأحيان- إلا على ما يرويه أحد العوام الذي اعتاد أن يجلس على شاشة التلفاز؛ يقلِّب بين القنوات بيده اليمنى، ويمسك بمسبحته الطويلة بيده اليسرى؛ فبات يظنُّ أنَّ ارتفاع الأَصوات يعوِّض نقص المعرفة، وأنَّ الثقة المفرطة تقوم مقام الدليل والبرهان، وأنَّ الشعور الشخصي أصدق من أيَّة دراسةٍ علميَّة منشورة في المجلات المُحَكَّمة، حتى بدأنا نرى ونسمع أنَّ الجاهل يشرح للمتعلِّم المتخصِّص أبجديَّات تخصصه الدقيق الذي أَفنى حياته بدراسته، فيمنحه الرأي العلمي المصحوب بالمقولة الشائعة: "أنا بحكيلك عن خبرة".

لقد صرنا نناقش الموازنات ونحلِّل الاقتصاد كما نحلِّل الطقس؛ فإِذا فشلنا في تنبؤاتنا الجويَّة؛ فإِنَّنا نعزي ذلك إلى أنَّ نفوس البشر في تلك الحُقبة لم تكن صافية، فصرنا نخلط الفلسفة بالشعوذة، والمنطق بالتنجيم، ونعتقد أنَّ رأياً يقذِفُ به صاحبه في ساعة غضب يعادل نتائج أبحاث علميَّة تعب من أَجلها الباحثون! فبتنا نخاف الصمت لأَنَّه يفضح العقل، ونهرب من الفكرة لأنَّنا نطالب بالدليل، ونستهلُّ الجدل لأنَّه أرخص أنواع الظهور، فنستعمل سواليف الهجيني كغطاءٍ يخفي أَنيميا الفكر، ويُجمِّل خواء المعرفة، ومع ذلك نصرُّ بكلِّ ثقةٍ على أنَّ كلامنا منطقي ورأينا مدعوم؛ فنحلِّل الواقع وكأنَّنا خبراء، ونحاول بناء مستقبل بأَدواتنا التي لا تصلح إلى لتمضية الوقت، فنستخدم الربابة الفكريَّة نفسها؛ لكنَّ الفرق أنَّ الأوائل كانوا يعرفون أنَّها آلة تصنع الأُنس والمرح، أما نحن فقد استخدمناها لصناعة القرارات المصيريَّة التي نتجادل بها من غير علم، ونصرخ بها من غير دليل، ونحلِّلها من غير أَدوات، فكلُّ مشكلاتنا البسيطة التي تبدأ من ((سعر رغيف الخبز إلى أن تنتهي بسقوط الحضارات))؛ تُختزل كلُّها في دقائق من سواليف الهجيني؛ يتبادلونها رجالٌ لم يقرؤا كتاباً واحداً بعد تخرُّجهم؛ فتجد أنَّ الحوار عن أزمة التعليم يدور بين رجلين لا يجيدان كتابة فقرة من غير أخطاء النحو والصرف والإملاء، وأنَّ نقاش الأمور الاقتصاديَّة يقدِّمه شخصٌ يحسب الأرباح على أصابع يده، أما الحوارات السياسيَّة؛ فقد تحوَّلت إلى هجيني متواصل، يتحاور فيه المحلِّلون على وترٍ واحد، فإِذا سأَلت أحدهم عن التنمية؛ عزف لك على وتر الربابة المعروف! وإذا سألته عن الفساد؛ عزف على الوتر نفسه! وإذا ناقشته في الموازنة؛ عزف على وتر تلك الربابة التي نعتبر نغماتها خاتمة علميَّة لا يجرؤ أحد مناقشتها لما تحمله من تورُّمٍ سرطانيٍّ تسمح للجاهل أن يقفز فوق المختبرات، وأن يجلس فوق الكتب؛ ليعود إليك بتحليلٍ يشبه عطور التركيب "إللي بتنباع بنص دينار على بسطات سوق الجمعة"، لذلك؛ أصبح أفراد الأُمة يخلطون بين ثقافة الحوار وثقافة الهجيني، فإذا قيل لأحدهم: إِنَّ هذا الكلام غير مصحوب بدليل علمي؛ انتفض وكأنَّك اتهمته بالعمالة أو أوقعت عليه جرم الخيانة!.

الحقيقة التي يجب أن ندركها ونعمل من أجلها؛ هي إِنَّ الشعور بالتخلُّف هو أوَّل خطوة عمليَّة لبناء الحضارة، فالأُمة التي تريد أن تبني حضارتها وتستعيد أَمجادها؛ فإِنَّه لا بدَّ لها من الاعتراف الحقيقي بأنَّها قد تخلَّفت عن رَّكب الأُمم المتحضِّرة؛ حينها تستطيع أن تسلِّط الضوء على مواطن العجز، والعمل على تأسيس وتنظيم ثورة فكريَّة تُعلِّم الأجيال بأَنَّ الربابة مكانها الطرب، وأنَّ الهجيني مكانه السهرات، وأنَّ النقاش الحقيقي لا يُبنى على حجم الشوارب التي تعترض وجوه الرجال، ولا على عدد المتابعين في "مواقع التفاصل الاجتماعي"، بل إِنَّه يُبنى على علمٍ رصينٍ واحترامٍ للعقل؛ وإلى أن نبلغ ما نرنو إليه ونصحو من غفلتنا؛ فإنَّه يتطلَّب منَّا أن ندرك أنَّ الثرثرة ليست فكراً، وأنَّ السواليف الشعبيَّة التي نعالج بها عجزنا ليست معرفة، وإنَّ الهجيني التراثي ليس منهجاً لحلِّ المشكلات، بل هو علمٌ شعبي يساعدنا أن نقضي أوقات فراغنا لنقفز في الهواء، ونصرخ في الفراغ، لنظن أننا نصنع تقدُّماً نلهث فيه وراء أصواتنا فنمنح الجهل لقب الحكمة، ونجعل الجدل مقام التحليل!.

خلاصة القول: إِنَّنا لا نحتاج إلى إِسكات الربابة الشعبيَّة القديمة التي ما زلنا نردِّد نغماتها بإِصرار؛ بل نحتاج إلى تعطيل وتر الجهل الذي يتخفَّى بثوبِ المنطق، وإِلى إِخراس الفوضى التي تتنكَّر بأَشكال التحليل، فضلاً عن حاجتنا لإِخماد حرائق "أصوات النشاز" التي ترسم لنا بصراخها طرائقَ نجاةٍ وهميَّةٍ على شواطئِ بحارٍ عميقة من "سواليف الهجيني" التي لا تمتلك قارباً واحداً من قوارب المعرفة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :