ما الحب إلا للصديق الأول .. سليمان الطعاني
24-08-2010 01:12 AM
الصديق لا يطلب حتى تأخذ منه شيئا . أو لتعطيه شيئا . ولكن ليسكن إليه ، ويعتمد عليه ويستأنس به ويستفاد منه ، ويستشار في الملمات ، وينهض في المهمات ، والأخذ والعطاء في عرض ذلك جاريان على مذهب الجود والكرم ، بلا حسد ، ولا نكد ، ولا صدد ولا حدد ولا تلوم ولا تلاوم . انه إنسان هو أنت، إلا انه بالشخص غيــــــــــــــرك .
ولو أنفقت عمرك في طلب صديق وأنت تنوي أن تأخذ من فلن تجده ، ولو كان في نيتك أن تعطيه شيئا لوجـدته .
لاشيء في الدنيا أحب لناظري من منظر الخلان والأصحاب
وألذ موسيقى تسر مسامعي صوت البشير بعودة الأحباب
يرى المتنبي أن أسوأ البلاد تلك التي لا يستطيع فيها المرء أن يعثر فيها على صديق
شر البلاد بلاد لا صديق بها وشرما يكسب الإنسان ما يصم
ولقد سئل أبو الفتح البستي عن كيفية اختيار الصديق ، فحثنا على اختياره من ذوي الأحساب والأصول الكريمة قائلا :
إذا اصطفيت امرأً فليكن شريف النِّجار زكى الحَسَب
فنذل الرجالِ كنذلِ النَّباتِ فلاَ للثمارِ ولا للحطب
ونصحنا الأمام علي كرم الله وجهه قائلا :
ولا تصحب أخا الجهل وإيـاك وإيـاه
فكم من جاهل أردى حليماً حين يلقاه
يقـاس المـرء بالمرء إذا مـا هو ماشاه
ولما سئل كرم الله وجهه: "كم صديق لك؟ قال لا أدري الآن! لأن الدنيا مقبلة علي والناس كلهم أصدقائي وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عني فخير الأصدقاء من أقبل إذا أدبر الزمان عنك".
ولكن ........
إذا جاريت في خلق دنيئا فأنت ومن تجاريه سواء
رأيت الحر يجتنب المخازي ويمنعه من الغدر الوفاء
و ما من شدة إلا سيأتي لها من بعد شدتها رخاء
لقد جربت هذا الدهر حتى أفادتني التجارب والعناء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تسح فاصنع ما تشاء
وها هو بشار بن برد يؤكد على المسامحة مع الأصدقاء ويقول :
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا عن القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وقال النابغة :
ولست بمستبق أخا لاتلمه على شعث أي الرجال المهذب
بل أن شاعراً مثل أبي فراس الحمداني يجد في هفوات الصديق فرصة لاختبار هذه العلاقة وتوثيقها من خلال العفو والتسامح والتعاطف حيث يقول:
ما كنتُ مذ كنتُ إلا طوع خلاني ليست مؤاخذةُ الإخوان من شاني
يجني الخليل فأستحلي جنايته حتى أدل على عفوي وإحساني
إذا خليلي لم تكثر إساءته فأين موضع إحساني وغفراني
يجني عليَّ وأحنو صافحاً أبداً لاشيء أحسن من حان على جانِ
والصورة التي يرسمها أبو فراس لنفسه في معاملته لصديقه هي تعبير عن النبل والسماحة والخلق الكريم فهو موافق لخلانه فيما يرونه، إنه حاضر أينما طلبوه وجدوه ، فهو عند الشدة والرخاء وهو عند الخوف والرجاء بل إن طباعه لا تتقبل عتاب ولوم الأصدقاء وينادى في نبله حين يرى في جناية صديقه شيئا حلوا لأنه يعرف أن هذه الجناية ستكون فرصة لإظهار صدق مودته وقوة ولائه وحسن وفائه ويرخى حبل الود حتى يتدلل الصديق على عفوه وإحسانه وهو يتساءل أين يكون موضع إحساني لو لم يكن هناك ذنب لأغفره,, وكأنه يريد أن يقول إن النقائص تظهر الفضائل ، ويقول الشاعر الجاهلي عديُّ بن زيد:
إذا كنتَ في قومٍ فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى من الردي
وبالعدل فانطق إن نطقت ولا تلم وذا الذم فأذممه وذا الحمد فاحمد
والشاعر الجاهلي يختلف اختلافاً كبيراً عن شاعرنا أبي فراس فبينما أبو فراس يرى في الصداقة عفوا وإحسانا وغفرانا فإن عدي يرى العلاقة بين الأصدقاء قائمة على الندية، فهو يدعو إلى حمد من يستحق الحمد وذم من يستحق الذم ولكنه من البداية ينصح بحسن الاختيار, وللصاحب والخليل علامات وسمات وملامح فها هو كثير الخزاعي يرى في صديقه الصبر ودواع المودة يقول:
وليس خليلي بالملول ولا الذي إذا غبت عنه باعني بخليل
ولكن خليلي من يديم وصاله ويكتم سري عند كل دخيل
والمتنبي ينفذ عند اختيار الصديق إلى جوهر شخصيته وطباعه وأخلاقه حتى في الحب أليس هو القائل:
وحب العاقلين على التصافي وحب الجاهلين على الوسام
وينظر المتنبي عند اختيار الصديق إلى الباطن فيقول:
أصاحب نفس المرء من قبل جسمه وأعرفها في فعله والتكلم
وأحلم عن خلي وأعلم انه متى أجزه حلما على الجهل يندم
وهذا أعرابي مجهول يدهشنا حين يقول:
وكنت إذا علقت حيال قوم صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم وأجتنب الإساءة إن أساءوا
وعلقت حبالهم كناية عن اتصال الود والصحبة والصداقة.
والمتنبي الذي ألفناه يركز على الباطن لا الظاهر وعلى الكيف لا الكم يرى أن الصداقة ينبغي أن تؤخذ بحذر وعلى المرء ألا يستكثر من الأصحاب, إنه اقرب إلى التشاؤم حين يرى في الصداقة عداوة محتملة,, انه يدعو إلى الحكمة والتبصر والحذر وتلك رؤيا مجرب عرف وذاق فخبر الناس والدنيا يقول أبو الطيب المتنبي:
عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه يحول من الطعام أو الشراب
إذا انقلب الصديق غدا عدوا مبينا والأمور إلى انقلاب
ولو كان الكثير يطيب كانت مصاحبة الكثير من الصواب
ولكن قلما استكثرت إلا سقطت على ذئاب في ثياب
وهذا الرأي من المتنبي يتسق ورؤيته المتشائمة للبشر إذ يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روّى رمحه غير راحمِ
فلا هو مرحوم إذا قدروا له ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
ولاشك أن رؤية مثل أبي فراس الحمداني على النقيض من رؤية المتنبي وليست العبرة هنا بالصواب والخطأ وإنما مرد الأمر كله إلى تعامل الطبيعة الإنسانية مع العالم والبشر,, فأبو فراس الحمداني ينهل من معين رائق من النبل والفروسية والأصول الكريمة والاحساب العالية بينما يعتمد المتنبي على تجربته القاسية في حياة لم يجد فيها الراحة أو الهناء، وقريب من رؤية المتنبي التي تدعو إلى الحرص والحذر عند الاختيار قول ابن الكيزاني:
تخير لنفسك من تصطفيه ولا تدنين إليك اللئاما
فليس الصديق صديق الرخاء ولكن إذا قعد الدهر قاما
تنام وهمته في الذي يهمك لا يستلق المناما
وكم ضاحك لك أحشاؤه تمناك أن لو لقيت الحماما
وقال جبران : لي في نفسي صديق يعزيني إذا ما اشتدت خطوب الأيام ، ويواسيني عندما تلم مصائب الحياة ، ومن لم يكن صديقاً لنفسه كان عدواً للناس، ومن لم يرى مؤنساً من ذاته مات قانطاً لأن الحياة تنبثق من داخل الإنسان ولن تجيء مما يحيط به ، جئت لأقول كلمة سأقولها، وإذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد ، فالغد لا يترك سراً مكنوناً في كتاب اللانهاية.
جئت لأحيا بمجد المحبة ونور الجمال وهاأنذا حي و الناس لا يستطيعون إبعادي عن حياتي، إن سلبوا عيني تمتعت بالإصغاء ولأغاني المحبة وألحان الجمال، وإن طمسوا أذني تلذذت بملامسة أثير ممزوج بأنفاس المحبين وأريج الجمال، جئت لأكون للكل وبالكل والذي أفعله اليوم في وحدتي يعلنه المستقبل أمام الناس والذي أقوله الآن بلسان واحد، يقوله الآتي بألسنة عديدة.؟!
وترحم الشافعي على الدنيا في غياب الصحبة الصادقة قائلا :
سَـلامٌ عَلى الدُّنْيـا إِذَا لَمْ يَكُـنْ بِـهَا صَـدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الوَعْدِ مُنْصِفَـا
ومع مسك الختام بعيدا عن آراء الشعراء وغيرهم من بني البشر ، يأتي الخطاب الإلهي ليبين لنا من هم الأخلاء بقوله تعالى : ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) .