عندما تجلسُ وَحدك ، وقد إتكأت على جنبكَ ، تتأمل الأيام والأصحاب ، وبِمَن التقيتَ بِهم في الأيامِ التي مَضت مِن العُمرِ .. وأنتَ في فصلِ خريفهِ ، تُقلبُ صفحاتَ الماضي ، ثُم تُغمضُ عَينيكَ لِترى نَفسَكَ في كلِ ورقةٍ مَطويةٍ مِن أيامِ العُمرِ لتضعها في ميزانِ الأعمالِ ، يَأخُذكَ الفِكرُ لبداياتِ حياتكَ لتلومَ نفسكَ ، فتقولُ لو أنني ما مشيتُ بذاك الإتجاه ، وياليتني لَمْ أتخذ ذاكَ العمل ، وياليتني لَمْ أدرس هذا التخصص ، وياليتني لمْ أكن في هذا المكان .. لتحاولَ وأنتَ في نهايةِ الطريقِ أن تَسلُكَ أقربَ الطرقِ لِتنجو ..

وأثناءَ مَسيرنا معَ الركبِ نَحوَ القادم مِن الأيام .. ومِنْ حَولِنا رُفقاءَ يَتساقطون ، وتُطوى صَفحاتهم ، ثُمَ نَنسى وتأخذنا الأيامُ ومشاغِلُها بعدَ ذلكَ ، لِنقفَ بينَ حينٍ وحين لِنَسترجِعَ الماضيَ وَقد ابيَضَت العُيون وذَبُلت الجفون ، والذكرى أوجَعت القلوبَ ، فلازالت الأيامُ تسير .. وما زلنا نرى البعضَ يمشون في الظِل ، يَنظرون إلى الأفق البعيد ، ويسيرون نحوَ السراب ، ومَحطتهم الأخيرة واضحة بينَ يديهم،، والعبرةُ أمامَ أعينهم مِن أعداد الراحلين ..

ثُمَ يأخُذكَ الفكرُ مرةً أخرى لترى مشاهد واقعية متكررة لأؤلئكَ الذينَ يراءونَ الناسَ في الحياةِ ، وآخرون يَجعلون رزقهم أنهم يكذبون ، مشاهدٌ خُطت مِن قبلً في كتابٍ مَكنون ، آيات نقرأها ونمُرُ عَليها ، والمشهدُ أمامنا يتكرر كُلَ يومٍ ، مَشهدٌ إعتدنا عليه ، فأصبحَ جُزءاً مِن حياتِنا ، ألفناهُ وإعتدنا عليه ..

ثُمَ تنظرُ حولكَ مُتأملاً لترى المصير الأخير ، مُنتظراً ، راجياً ، نادماً ، داعياً ، راغباً أن تبقى مُتكئاً على جَنبِكَ فوقَ أريكةٍ في بَيتِكَ ، راضياً بِما قسمهُ اللهُ لكَ على أن تخوضَ مع الخائضين المُكذبين ، متكئاً والرضى في قلبكَ يَلفهُ راحة الضمير ...

أدهشني طفلٌ مُهاجرٌ أراهُ أغلبَ الأحيانِ في أركانِ مَسجدنا جاءَ مِنْ حافةِ العالم هارباً مع والديهِ بدينهِ .. يطلبُ العلمَ ، ويقلبُ دفاترهِ في سكونٍ ووقار ، وقد إتضحت رؤيته وعرفَ مَسلكه ، فسعى بخطواتٍ محسوبةٍ وعزمِ الواثقِ ،، تمنيتُ لو عادت بيَ الأيام فكنتُ مكانهُ ، وعَلِمتُ عِلمَهُ ومشيتُ على نهجهِ ،، ليست الدُنيا في مخيلتهِ ولا زينتها ، ولا حتى مالها وسلطانها ،، أنظر اليه فأرى إرادة الله بإختيار أحبائه ، ومن يَحفظونَ كتابه ..

أضعنا مِنَ العُمرِ الكثير نركُض وراءَ وَهم الدُنيا وسُلطانها ، عُمرٌ ضاعَ في لهوٍ ولعبٍ وتفاخرٍ ، كثيرون هُم أمثالنا ، يَسيرونَ معنا وحولنا ، تأخذهم الدُنيا شرقاً وغرباً بزينتِها ، والآمالُ تَحِفُها الأحلامُ ، ثُمَ يُدركونَ أنه لم يبقى مِنَ العُمرِ الكثير ، سَتُطوى أوراقَهم مِنَ الدُنيا كما أوراق مَن كانوا مَعنا ، غابوا ورَحلوا عَنا ، دون وَداعٍ والدموعُ في عيونِنا ، نَذكرُهُم حيناً ثمَ ننسى ، تُطوى أوراقَهم بَعد حينٍ ، كغيرِهم أوراقَهم طُويتْ ..