facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




عن ماما إنصاف قلعجي "كُلِّ ده كان ليه"


د. بلقيس الكركي
26-09-2023 02:23 PM

الرّابع والعشرون من تمّوز، 2020. كان ذلك أنذلَ يوم في حياتي وحياة رشا وليلى وندى يا ماما.

لم أستطع أن أكتب عنكِ حقّاً إلى الآن رغم تراكم خبرتي في الكلام الفارغ والملآن. كان على ذلك اليوم الحقير أن يأتيَ لأرى الخلل الفاضح في المسوّدات المتراكمة: أنّي أصغرُ من أن أكتب عنك، أنّي كنتُ أكتب باسمي وحدي، بشعوري وحدي، بلُغَتي وحدي، بقصّتي معك وحدي، بدموعي ورعبي ذلك اليومَ وحدي، لا باسمنا بناتِك الأربع على ترتيب حدوثنا فيك: رشا وليلى وبلقيس وندى.

أنا يا ماما أقلّ من أن أواجه جلالك وجمالك وحدي، أنا ثالثةُ أربع بنات، أنا رُبع حبّ هائل، ولا بدّ من أن أستعيدَ مكاني الطّبيعيّ من الأشياء كي تأتيَ إليّ الكلمات. عليّ أن أستعير من "البنات"، "بنات إنصاف"، أسماءهنّ وقِصَصَهنّ وعواطفهنّ نحوَك مهما اختلفنا في وصف الأسباب، كما نستعير من بعضنا الملابس والمال والتّفاصيل والثّرثرة والأسرار والكراكيب. تقولين دوما: "همّ البنات للمَمات"، ولا بدّ من أن تجتمع البناتُ والهموم – وأكبرُها غيابُك - علّ المواجهة تكون عادلة أمام الأعلام الشّامخة لجيشك النّبيل، وعلّني أستطيع أن أكتب.

صباحَ الجمعة الحزينة، الرّابع والعشرين من تمّوز، 2020. كنتِ عائدة من زيارة جدّتي محمّلةً بالخبز. كان وجهك متعَباً وكعادتك لم تبوحي بما بك. وكعادتك لم تدعينا أنا وليلى نساعدك في جلي الصّحون، وسبقناك إلى غرفتي القديمة، غرفتي ورشا، وكنتُ وليلى نثرثر ونضحك ونستغيب النّاس حتّى سمعنا ذلك الصوت. عرفتُ، صدّقيني عرفت، أنّ الصّوت كان وقوعَك قبل أن تمرّ الثّواني من غرفتي إلى باب الصّالون.

ولكثرة ما نتابع المسلسلات والأفلام قالت ليلى بدراميّةٍ أضحكَتْنا لاحقاً: "اصحي يا ماما اصحي"، وتقمّصتُ أنا شخصيّة الخبير الواثق في الأفلام: رششتُ على وجهك ماء الكولونيا – كم تحبّينها عاديّة قديمةً رخيصة - بينما أقول لليلى "لازم تضلّ صاحية" وأنا أجهلُ الإسعافات الأوّليّة تماماً. وضعتُ يدي تحت رأسك وتحسَّستُ موضع الوقعة وقلتُ رغم كلّ شيء: "يا ربّ، يا ربّ". أنا لن أعيش لو مِتِّ بين يديّ الآن، أنا وليلى وحدنا قليلتان، جدّاً قليلتان، نريد رشا وندى الآن، وبابا معنا – رغم كلّ شيء.

كنتُ سأقع مراراً في سيّارة الإسعاف لشدّة ما كانت مسرعة وشدّتني على الكرسيّ الهزيل فكرتُك عنّي، وكان الـمُسعِف يمازحك وأنتِ برُبعِ وعي. لو أنّكَ تعرف كم هي صلبة هذه الإنسانة، وأنّها لن تشكوَ ألماً أو خوفاً أمام أيّ مخلوق حتّى لو كان من صُلبها فما بالُكَ بغريب. كلّ واحدة منّا البنات تدرك تماماً أنّ أمّها جبّارة غريبة الأطوار، وأنّ لصبرها الطّويل وترفُّعِها وغرورِها ثمناً لا بدّ يأتي، وها هو قد أتى.

وقعَتْ ماما على رأسها الثّقيل بكبريائها فتكسّرَ العالم من حولنا، وبابا يحاول أن يجعلني ورشا نتوقّف عن البكاء "الهستيريّ" أمام النّاس خارج غرفة الأشعّة وكان مستغرباً كأنّه يدرك هشاشتنا للمرّة الأولى. غمستُ نفسي في صدر رشا وتضرّعت: "يا رشا، يا رشا"، كأنّ أختي الكبرى ستحلّ المسألة مع ملك الموت مثلما تحلّ أشياء كثيرة في حياتي. لم تنظر إلينا ماما حين استيقظت في غرفة الطوارئ، بل إلى بابا، وسألتْه : "أنا لسّه ما متّ"؟ وثرثرا شيئاً عن سقوط الأمّة العربيّة ولعنتُ التّاريخ والسّياسة وبيتاً من الكتب والثّقافة وخطرت في بالي كلمة "ترعرعت" الكريهة مثل رائحة المستشفى وأضواء المستشفى وكيف سنترعرع وحدنا لو رحلتِ يا ماما وبحثتُ عن ندى وجاءت ندى ولم تبك ندى.

"بلقيس ستبقى عندها". يؤخَذ القرار بسلاسة فأنا في النّهاية ثالثةُ أربع لا تحتاج سوى الدّخان وفرشاةً ومعجونَ أسنان. نمت في غرفة قريبة في المستشفى نفسه قبل ذلك بعامين عند أبي. الفارق الجوهريّ أنّه ترك التّدخين منذ سنوات بسبب الملك حسين وتلك قصّة طويلة، وأنتِ العنيدة البعيدة عن السّلطة تريدين أن أقفَ حارساً عند باب الغرفة كي تدخّني بشراهةٍ واستمتاع في الحمّام. "أدخّن منذ خمسة وخمسين عاماً"، تقولين بفخر للطّبيب البارد. وعندما أرسلتُ لك رسالةً قصيرة في الذّكرى السّنويّة لتلك الكارثة: "ماما تشركلتْ وهي تطارد خيطَ دخان"، لم تردّي عليها، وكنتِ غالباً مشغولة بشيء للبنات أو بدرس الفرنسيّة على دوو-لينغو أو بمسلسل جريمة على نتفلكس أو بتطبيق نبض، وعاتبتُك على إهمال عواطفي، وعلى ردِّك على بلاغتي بمُلصَقات القلوب الكبيرة في الواتساب وعلى بطّةٍ تتأرجح. "وستعرفُ بعد رحيل العمر بأنّك كنتَ تُطارد خيطَ دخان". رشا تحبّ البيت جدّاً مثلك، وتبالغ في مدحِه مثلك، وأقول لك كلّما أعَدْتِه: "عارفة بس خلّيني أطارد شو أقعد أعمل"، وكلّما قعدتُ وشكوت كنتِ تنظرين إليّ بازدراء: "الفالحة بْتِغْزِل على ذَنَب كلب".

وغزلتُ يا ماما غزلت، كلّ واحدة منّا غزلتْ أشياء تريدها ولا تريدها من خيط الدّخان ذاك، وكلّه لا يساوي شيئاً أمام رضاك. "الفالحة بْتِغْزِل على ذَنَب كلب": لا تحبّين الضَّعف، تزْدَرينه، رغم حنانِك الجبّار العظيم. حين تشركلتُ أنا على درج البيت ووقعت قبل عامين – كنتُ أطارد خيطاً تسمّينه ساخرةً "مساحتك الخاصّة ما غيرها" - وكنتِ ورائي تحملين سلّة الغسيل متّجهة نحو الغسّالة في التّسوية، تأكّدْتِ سريعاً من أنّي لم أغِبْ عن الوعي ولم تكترثي بالألم وبنظّارتي المكسورة، فصرختُ وناديتُ ليلى وجاءت ليلى وسندَتني على الدّرج صعوداً واتّصلنا برشا وأتتْ بينما أكملتِ أنتِ وجبةَ الغسيل بسلاسة متناهية وبرود عجيب.

نتبادل باستمرار دهشةً لذيذة من سلوكك وقصصاً عن قسوتك: كيف صرختِ في وجه رشا لأنّها تذمّرتْ من ألمها بعد القيصريّة وقتَ مجيء راشد، وهي أوّل من أورثتِها إدمان السجائر الّتي لم تتركها لا في الحمل ولا قبل الولادة بقليل؛ وكيف لم نعرف أنّ حروق ليلى بالقهوة كانت من الدّرجة الثّالثة العميقة لأنّك سخَّفتِ لها الأمر ولم تجرؤ على الشّكوى أمامك؛ وكيف صرختِ في وجهي عند باب الغرفة حين خانتني أعصابي قبل عشر سنوات: "بنتي أنا مو ضعيفة هيك"، وصفعتِ الباب، وما تزال "أنا" تلك ترنّ في رأسي وترفعني، هي وفخرُك المستمرّ بأنّ بلقيس الصّغيرة مثل خالتها ندى: "جدعة وقد حالها"، وهي الّتي في الجامعة ضربت شابّا بكلّ قوّتها لأنّه تحرّش ببنت أخرى. أنت تحبّين راشد وبلقيس الصّغيرة، حفيدَيك اللّذَين كبرا، أكثر منّا، ولم تنهريهما يوماً، وكلّمّا أخذتُك عند طبيب تتحدّثين عنهما باعتزاز وتنسَين بناتك الموهوبات! "حفيدي راشد عبقريّ يدرس الدكتوراة في الأدب الروسيّ في روسيا"، "ماما إحنا كمان متعلمات على فكرة"، وتسحبين نَفَساً عميقاً بعد آخر من سيجارة أو اثنتين بعد كل موعد طبّي وتقولين لي مُحرِقَةً تناقضاتك في رئتَيك ومختَزِلةً شخصي برئتيّ: "خفّفي تدخين".

سنغيّر الطبيب، حاضر، فقد مدح حضرتُه إسرائيل أمامك، أمام إنصاف قلعجي! دكتور مُطبّع لا، مهما كان "فهمان". وغيّرناه، وأصبح عمّار مبيضين طبيبَ دماغك وأعصابك، كما هو أيمن مدانات طبيب عينيك الجميلتين منذ زمن بعيد. طبيبان وطنيّان قوميّان يليقان بمزاجك. تُضحكنا مفارقة أنّهما من الكرك، ونسمّي المفارقة حظّاً ومصيراً. هي أكثر من ذلك، فقد أبقيتِ على مكتب أبي، خالد الكركي، في البيت كما هو تماماً طيلة ثمانية عشر عاماً من غيابه ولم تغيّري ورقة من مكانها وحميتِه من تراكم الغبار كأنّه متحفٌ عريق بلا زُوّار. يُدهَش أبي من اعتنائك بأطلاله، وتتصرّفين بعاديّة شديدة كأنّ الأمرَ برمّته بلا عاطفة أو معنى. وصفتِه، أبي، بالـ"غالي" قبل فترة، واختزلتِ ذكريات البيت به وحدَه، وتذكّرتُ أنّك لا تقولين ما لا تعنين.

تذكّرتُ ما قلتِه لي على الهاتف حين وكنتُ وعجزي معه في المستشفى: "جيبوه عندي أنا بدير بالي عليه"، ورسالةً منك على هاتفه: "لماذا هذا القلبُ المتعَب أيّها الرّفيق؟"، واقتباسات من كولونيل ماركيز الّذي لا أحد يكاتبه ولا يفهمها سواكما. بكيتُ كثيراً وقتَها أمام النّاس والخَلْق في الممرّات، حسرةً على القصّة، وحقداً عميقاً على ما خرّب القصّة، وها هي عادت بفصل جديد، بعد جملة معترضة كانت مثل حشو فارغ كما يقول البلاغيّون. "جيب أولادك وتعال، البيت بيتك خالد".

بعد يومين من خروجك من المستشفى، طلبتِ ندى. كانت آثار النّزيف الدّاخليّ تملأ رأسَك ووجهَك وعنقَك وآثارُ الإبر تملأ ذراعيك. كنت تريدين الذّهاب عند جدّتي، وأن لا تنتبهَ إلى ما حصل. ندى تعرف كيف تخفي ذلك ببراعة، وتعرف كيف تسرّح لك شعرك وتلوّن لك أظافرك كما تحبّين، وكيف تبدين أمام جدّتي كأنّ شيئاً لم يكن بعد أيّام، كما أخفيتِ عنها مرضاً آخر قبل سنوات كثيرة ولم تعرف به إلى أن غادرت الدّنيا. دخّنتِ سيجارة عند قبرها بعد الفاتحة، وجعلتِني ألمُّ تراباً قُربه كي تزرعي فيه شيئاً على طريقتك البديعة في الحزن. لم تبكي عليها حقّاً إلى الآن، ويقول بابا :"أمّك ستبكي عليّ أنا عندما أموت"، وترنّ في رأسي "أنا" الواثقة تلك ومصدُرها البعيد: أنّك بكيتِ على سليمان أخيه أكثر من سهير أختك، وأنّك حين سقيتِه بيدك من ماء حنفيّة في الجامعة الأردنيّة في مطلع شبابك وجنونك، كان يعرف أنّك تسقينَه من العاصي ومن بَرَدى. حين حَضَنك على رصيف البيت يوم توفّيت أمّك – وكنتِ أيضاً محمّلةً بأكياس الخبز! - لم يعرف طلّاب الجامعة الّذين يملؤون الحارة أنّ هذين العَجوزَين المتعانقَين كانا يوما مشغولَين في اللّجنة الثّقافية في كليّة الآداب قبل أكثر من نصف قرن، وأن حياةً كاملة لبنات أربع بدأت من هناك.

تُدندنين كثيراً هذه الأيّام: "عاللّالا ولالا ولالا... ليش الزَّعَل يا خالة... هِيِّ ما زِعْلِتْ مِنّي خَيُّو... هِيّ زِعْلِتْ لحالا". ولأنّني ابنة زمان آخر أردُّ عليك: "لأ مِنَّكْ، مو لحالا، مِنَّك!"، كما أسخر رغم بعض الطّرب من "أيظنُّ" الّتي لكما معها تاريخ طويل: "حملَ الزّهور إليّ كيفَ أردُّهُ ... وصبايَ مرسومٌ على شفتيهِ". تضحكان معي وأنا من جيلٍ جميلٍ حاقِدٍ "يردُّهُ" حتّى لو تكّرَم وأحضر لها الشوكلاتة والهدايا وبراءة أطفال العالم كلّهم في عينيه.

حين أرادَ بابا أن يوصلك بسيّارته ذات النّمرة الحمراء من المستشفى إلى البيت سألَني: "اسألي أمِّك إذا بتقبَل". استغربتُ، وسألتُكِ وضَحِكْتِ، وتفاجأتِ لأنّه يتذكّر موقفاً عمره ثلاثون سنة. في عامٍ ما مطلع التِّسعينات، تعطَّلت سيّارتُك وكنت تريدين الذّهاب إلى رابطة الكتّاب، وكانت معه سيّارة حكوميّة ذات نمرة حمراء أخرى، وعرض عليك أن يُوصلك. أوصلك، لكنّك لشِدّة خجلك من مظاهر السّلطة سَحَّلْتِ نفسك على الكرسيّ كي لا يراك أحد وتنتشر "الفضيحة" كما ترينها. تصفين نفسك بالبروليتاريّة أحياناً، والفلّاحة أحياناً، وأسخر وأضحك: "البروليتاريا مش خيار يا ماما"، وأشمت أكثر حين يُفلِت منك حُكْمٌ طبقيّ تعودين فيه إحدى "بنات عمّان أيام زمان" كما في عنوان كتاب لطيف ذُكرت فيه بنات عائلتك.

ماما تعلّمتْ البيانو واللّغات صغيرةً عند الرّاهبات، وتعلّمَتْ رقصةَ زوربا من بنات عمّها في جبل اللويبدة، لكنّها مصرّة أنّها في داخلها فلّاحة. هل هناك فلّاحة فعلَتْ مثلَك يا ماما حين كُنْتِ تُرضعينني من صدرك؟ اكتشفتِ أنّكِ حامل، ولم تريدي بنتاً رابعة ولا صبيّاً يكسر قاعدة البنات، فشربتِ زجاجة كونياك علّ ندى تمتنع عن الوجود، وما فَلَحْتِ، وتقاسمنا أنا وندى الزّجاجة، وهو ما يفسّر أشياء كثيرة فينا غير مهمّة الآن. ما زال مزاجك يسمح بالقليل الّذي يُفرح القلب بين حين وآخر، حتّى بين صلاتين. كم من قصّة نرويها عن غرابتك يا ماما. "هل ما يزال خطّ إنصاف مائلاً؟"، سألني نهاد الموسى وأنا على مقاعد الدّراسة، وحرّك يده لتحاكيَ حركة خطّك الذّي كان يتذكّرُه بعد أربعين عاماً من تدريسك. ليس خطّها فقط يا دكتور نهاد رحمك الله، فماما تميل وتحيدُ عن كلّ مألوف. كم مالت حتّى وقعت.

هل تذكرين مشاويرَ الصَّباح الباكر تلك قبل سنوات، حين قلتِ لي: "إلى المفرق، مقبرة الشّهداء العراقيّين في الـ 48"؟ وأخذتِ معك متسعجِلَةً بشكيراً لتغطّي به شعَرَك عند قراءة الفاتحة. فتح لنا شخص المقبرة قبل أن يستيقظ النّاس، وقرأ الفاتحة معك، وكان مستغرباً وسعيداً جدّاً بالزّائرة غريبة الأطوار.

نتحمّس أنا والبنات بعد أن وجدتُ شريطاً أبيض عليه قصيدة "مرثيّة مصارع الثيّران" للوركا الّتي كنتِ تُسمِعيننا إيّاها في الطّريق إلى المدرسة جيئة وذهاباً – بعد أن تُزيلي شريط ميسون الصّناع الأزرق الّذي يسمعه بابا، بينما كان الشّريط المشترك بينكما "أشواق" لميّادة الحنّاوي - وأُسمِعها إيّاهن في سيّارتي القديمة ويَقُلْن: "ليش النّكد". توقَّفت ساعة يَدي ولم أغيّر البطّاريّة بعد وقوعك، وأبقيتُها عند الخامسة من أجلِك والقصيدة: "في الخامسةِ مِنْ بَعدِ الظُّهر، كانت السّاعةُ الخامسةَ تماماً بعدَ الظُّهر، أحضرَ صَبِيٌّ الملاءةَ البيضاء ... في الخامسةِ مِنْ بعد الظُّهر، وأُعِدَّتْ سَلَّةُ اللّيمون، في الخامسةِ من بعدِ الظّهر، وما تبقّى هو الموت، والموتُ وحدَه." لا أضطرُّ إلى أنْ أشرحَ للبنات لماذا الخامسة: "الخامسة من بعد الظُّهر، لوركا، الثّيران، ماما، طريق المدرسة"، ويفهمن. "كانت القصيدة تخلّيني حزينة وما كان عندي سبب لأحزن"، تقول ندى. "كانت تخلّيني بدّي أرجع بسرعة عالبيت"، تقول رشا. وتصدِمني الاستعارة رغم الأُلفة: "وأَفْرَخَ الموتُ بَيْضاً في الجِراح". أفرغنا الشَّريط ليصبح ملفّاً متطوّراً، الشّريط الّذي ربّما سجّلتِ القصيدة عليه من الإذاعة، ووضعناه على يوتيوب هديّة لكِ وشكراً على كلِّ شيء: "برنامج بانوراما، إخراج صالح حمدان، إشراف جمعيّة الخِرّيجين، نقل القصيدة عن الإسبانيّة ماهر البطوطي".

لا تهمّنا أيّ ترجمة أدقّ يا ماما، فالأدقّ هو ما يقرّبنا إليك. من أجلك تابعنا قناة الميادين مُطوّلاً بعد وقوعك، من أجلك ورغم اختلافنا عنك لم نُزِل صور صدّام من غرفة الضّيوف إلّا وقت جاهة ندى، تلك الصّور الّتي وضعتِها هناك بعد الطّلاق حتّى سمّى بابا الصّالون ساخراً: "المناطق المحرَّرة".

من أجلك نسرد قصصاً عن تمزيقك رسالتك للدكتوراة الّتي كنت تحضّرينها في جامعة لندن أمام ناظِرَي بابا وأنتِ في الفصل الأخير لأنّكِ قرّرتِ أنّك لا تشبهين الأكاديميّين، وعن مشاركتك في المظاهرات مع ليث شبيلات بينما كان بابا في أعلى هرم في السّلطة، وعن كتابتِك رسالة بدَمِك ودمِ عودة قوّاس لصدّام حسين جكارة بالأمريكان، وكعبِك العالي الّذي خلعتِه في استعراض عسكريّ طويل بسبب – أو بحجّة - دوالي السّاقَين، وقصصك السّاخرة "معالي زوجة المعالي" و"في الحذاء ببّغاء"، وطلبِك من بابا أن يُحضِر لكِ ضُمّةَ بقدونس وهو في موكبٍ ملكيّ، ورعبِنا عليك ليلة موت صدّام وكان معظمنا خارج البلاد وقيامِ بابا رغم الطّلاق بواجب الاطمئنان عليكِ من مطلع الصّباح، ورفضك وعنادك المستمرّ وعجقتك – حين كنت تطاردين خيوطاً كثيرةً من دُخان - في المعهد الفرنسيّ والجمعيّة الفلكيّة الأردنيّة ودروس اليوغا والرّابطة والحزب العربيّ الديمقراطيّ وصداقة مؤنس وأمّ مؤنس وطمّليه وتي-شيرت "أمّ المعارك" و"جيفارا" ومؤخّراً تي-شيرت "بوتين عاري الصّدر على دبّ روسيّ" أهداه لك راشد. حين يسبّ النّاس "شبّيحة بشّار" أمامي، وأوافق لأنّي فعلاً أوافق، أشعرُ بأنّي خُنتُك في غيابك فأستدرك: "على فكرة إمّي شبّيحة". يتفاجأ النّاس لأنّي والبنات لم نَزُر سوريا في حياتنا، رغم الكلمات الّتي ورثناها من لهجتِك.

كنتِ وبابا تذهبان لشراء الشّراشف والحرامات من دمشق ولحلّ خلافاتكما المتراكمة، وكنّا نرفض الذّهاب معكما، كي نبقى وحدنا في البيت، بيت البنات المفتوح للقريبات والصّديقات البنات. بالمناسبة، أنا لا أحبّ حبّكِ للشّام أبداً، وأراه فيه تعالياً لا ترينه أنتِ. آخر مرّة أخذتك في مشوار إلى جبل القلعة، لم يُعجِبْك المسجد الأمويّ هناك، وقارنتِه بالجامع الأمويّ في دمشق، وسرحتِ وتعكّر مزاجُكِ - ولم أفهم إذا كان السبب سايكس وبيكو أم زُهد الأمويّين في تجميل عمّان - وعاد وتحسّن حين وجدتِ شخصاً يتمشّى هناك وكان أستاذَك فهمي جدعان.

رفعنا جرعةَ الدواء قبل فترة كي تخفّ الكهرباء في رأسك، وقلتِ للطّبيب إنّ المشكلة ليست فيكِ بل في قلق بناتك ووافقك. ينتهي كل موعد عند الطّبيب، ويكون بثٌّ سريع للبنات، ولقاءٌ وضحك وكلام ومشاجرات لا تنتهي. فتحتُ ملفّاً أوثّق فيه تاريخ كلّ دُوار يصيبك قبل الموعِد القادم، وليلى تلعب دور الـمُخِبر الخائف منك. شاركتُه في مجموعة على الواتساب فيها نحن البنات من دونك، اسمُها نساء صغيرات، على اسم الرّواية، الّتي فيها أربع بنات، وقرأناها كلّنا صغيرات، بسببك وبسبب بابا. الصّورة الّتي فيها صورتُنا معك، في عيد ميلادك في بيت ندى قبل الحادثة، حين شربتِ كأساً من النّبيذ ودخّنتِ وأنت تدندين أغنيتَك المفضَّلة : "كلّ ده كان ليه". وأدرك أنّ وجودنا بأكلمه كان لأنّ بابا قال لك "كم كِلمَة، تِشْبِه النِّسمة، في ليالي الصّيف".

قلتُ لكِ أعطيني كلَّ الرّسائل الـمُتبادلة بينكما منذ ثمانية وخمسين عاماً كي أنشرَها، لأنّها أجمل من كلّ ما كتبتماه ونشرتماه. وافقتِ واستدرك غرورُكِ: "بس هو كَتَبلي أكتر منّي بِكْتِير"، وما من أحد يُقنع بابا بعد. يمرُّ شخصٌ لا أعرفه بمكتبي بعد أن يقرأ اسمي على الباب: "تُدخِّنين؟ كان أبوك أيّام الجامعة ينهرُنا إذا ضيّفناه سيجارة ولم نضيّف أمّك. هذا الحكي 1967، أمّك كانت ملكة جمال".

أختصرُ الحديث. ما تزال ملكة جمال، فأنتَ لا ترى مزاجها حين تسمع فيروز: "بِكتُبْ اسمكْ يا حبيبي عالحَور العتيق، تِكْتُب اسمي يا حبيبي عَرَمل الطّريق". لا يا ماما، أنتِ الحور وأنتِ الرّمل كلّه، وقد شتّت الدّنيا كثيراً على القصص المجرّحة، ولم يُمحَ اسمُكِ. نعم، "بنات خالد الكركي" حيثما ذهبنا، لكنّنا أيضاً "بنات إنصاف"، إنصاف قلعجي، الصّادقة حدّ الوَجع: "بناتي مقبولات مو ملكات جمال يعني"، الغريبة في مشاعرها الّتي تعود من مقبرة وتقول " أمّا شو مقبرة يا بلقيس، بتشهّي الموت"، الّتي لا تبكي إلا على سقوط بغداد وما بعد بغداد، الّتي الّتي... ولن أسمح لبلاغة التّكرار أن تسحبني أكثر لأنّك أجمل وأعلى من ما تستطيعُه اللّغات.

الرّابع من أيلول، 2023، وأنا أكتب السّطر السّابق وأبحث عن خاتمة، وقعتِ مرّة أخرى وانكسر كاحِلُك. هذه المرّة كنّا أكثر تناغماً في الوصول إليك، نحن البنات وبابا، وفي إرسال "اللوكيشن" إلى شباب الدّفاع المدنيّ. هذه المرّة كنتِ في كامل وعيك وسُخريتك في سيّارة الإسعاف، وأزعجك صوتُها: "ما كانت بتزمّر هيك المرّة الماضية". "خالد أنا تعِبْت من راسي ومن الحياة"، تعيدين الشكوى ذاتها له وحدَه في المستشفى، وأبكي وأضحك وأخطّ سطراً لا أريد له أن يُمْحى.

أمضي الأيّام قربك، والبنات يقسّمن الواجبات: أنا أنظّف وليلى تغسل ورشا وندى تحضّران الطّعام اللّذيذ، ومع ذلك يبقى المديح الأكبر من نصيب راشد: "راشد حملني من السّيارة وطلع فيّ الدرج لتختي"، تردّدين بفخر لكلّ متّصل، وتطربين حين اكتشفتِ أن راشد يحفظ "النّهر الخالد"، وهو الّذي حين تعلّم الكتابة وَصَفَكِ بـ"الجَدَّة المتنوِّعة".

يزورك بابا في الصّباح وأخبرُ البنات أنّ فلورنتينو عند فيرمينا بكامل أناقته يُقلِّب في كُتبها وتُعيرُه بعضَها ويسألُها عن أقارب لها لم نسمع بهم في حياتنا. تقترح إحدانا أن تعقِدا القِران من جديد، من أجل لقب "رسميّ" يكون في نعيِكما حين يحين الوقت. تستهويني الفكرة لدقيقة، وأعود وأقول لا: القصّة أجمل من أن تنتهيَ بورقة وبداية جديدة، والطَّللُ لا بدّ أن يبقى طللاً كي نستطيع الضَّحك والبكاء.

قبل سنوات تحدّثتُ عنه في شومان بما يليق به، لأنّي ابنتُكِ، ولأنّك عالية جدّاً. خلعتُ نظّارتيَّ لأحدِّق في غيابك وغياب صفة واضحة بينكما – غير "الزّوجة السّابقة" - تستدعي دعوَتك إلى تكريمه. "كيف إنصاف" أو "كيف أم رشا؟" سألني كثيرون عنك كأنّهم رأوا ما رأيت. وبين شاعرٍ ما مدحَ شجاعة بابا لأنّه اختار سواكِ، أمام أصدقاء عمركما الطّويل، وسؤالِ لؤي وأشرف عمايرة بِودٍّ عريق عن "خالتو أم رشا" وسؤالي ورشا عن "خالتو أم لؤي"، سكّينٌ بلعتُها كما تفعلين وتنصحين كلّ يوم: "ارمي ورا ظهرك". أن تعقِدا القِران من جديد على حافّة الثّمانين: تسخرين من الفكرة برمّتها، وتسحبين نَفَساً آخر من سيجارة أخرى، وترسلين لنا رابطاً لفيديو آخر لدكتور بيرج وغيره عن أهمّيّة الملفوف والجرجير لصحّة الكبد وآخر عن فوائد التوقّف عن التّدخين.

هناك حبٌّ هائلٌ فينا يا ماما، هائل جدّاً، فلا تقعي مرّة ثالثة أرجوك ولا تموتي أبداً. سنُحْضِرُ لكِ خيط الدُّخان إلى السّرير كي تتوقّفي عن مطاردَتِه على الدَّرج الطَّويل. سنأخذُه معك في مشوار على الكرسيّ المتحرّك، ليتفقَّدَ معك نظافةَ البيت ويتمايلَ معك على "كلّ ده كان ليه". سيقرأ معك "أبناء غورباتشوف" و "ساحر الكرملين" و "أغنية هادئة" و"مؤنس الملك" ويتحمّس معكِ أحياناً ويتثاءب أخرى. سنروّض الخيط كي لا يفلت، مثلما سنروّض كلّ أحلامنا ومبرّراتنا الّتي تبعدنا عنك. سنقتلُ كلَّ الثّيران الّتي صارعتِها وهزمَتْ رُوحَك.سنوقف كلّ ساعاتنا عند الخامسة من بعد الظّهر، كيلا يملأنا الحُلُم بالعَتَمات. يا لصلابَتِك مع الجِراح يا ماما، يا لرِقَّتِك مع الندى، يا لمزاجك العالي مع كارم محمود: "أمانة عليكْ يا ليل طَوِّلْ .. وهاتِ العُمْرِ من الأوِّلْ".

يا لكِ من مُصارِعة عظيمة يا ماما..


https://www.youtube.com/watch?v=_BI1ezxM1XA





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :