شكل من أشكال الملاحم البطولية والمدارس النضالية التي غيَّرت تكتيكات الحرب التقليدية، وكسرت قاعدة” النصر للأقوى” توّجتها ملحمة غزة بإعلان وقف العدوان ، ليخرج العدو الإسرائيلي صاغراً ، بوهم بنى خلاله آمال القضاء على قطاع غزة ومن فيه ؛ لكن ذلك تلاشى أمام صخرة كؤود من البسالة والنضال والتضحية ، فتجلت الحقيقة وسقط المعتدي أمام صمود أسطوري ثمنه عشرات الالف من الشهداء والضحايا والأشلاء والدمار ، في إبادة جماعية شهدتها ارض غزة كل يوم وكل ساعة ووكل ثانية .
صباح اليوم وبعد سريان قرار وقف اطلاق النار بعد اكثر من "٤٦٦" يوما من العدوان الإجرامي الوحشي سجلت غزة ملحمة خالدة ، وتوجت النصر المبارك في مشهد قلَّ نظيره ، وفي معركة التحمت فيها الأرواح والبنادق وأعادت للقضية الفلسطينية زخمها المديد ، وحضورها الإقليمي والعالمي ، ما اضطر الكيان الإسرائيلي للرضوخ والاستسلام ، فلجأ ان ينقذ نفسه من الوحل الذي وقع فيه جيشه الذي ارتكب ابشع أنواع المجازر التي لم ترتكب من قبل في تاريخ البشرية ، وها هو اليوم يوافق مرغماً على وقف إطلاق النار ، بعد ان قتل هو بنفسه عشرات من اسراه حين اختار في عدوانه سياسة الارض المحروقة ، والابادة الجماعية ، والبطش والتنكيل ، مستخدماً الوان مختلفة من الأسلحة المحرمة، قاصدا بذلك إذلال اهل غزة ، ظناً منه أن سيتمكن من قتل الروح المقاومة عند اهلها من خلال استهدافه للنساء والشيوخ والأطفال ، فقتل اكثر من "خمسين ألف" فلسطيني وجرح أضعافهم ، ناهيك عن "١٠ الاف" من الاشلاء البشرية التي ما زالت ترقد تحت الانقاض ، معتقداً بذلك انه جعل الغزيين يرفعون الراية البيضاء ويستسلمون .
ان صمود المقاومين ، الذي لا يحتمل النقاش ولا يعتريه التباس لم يَحمِل "إسرائيل" على التوقيع على اتفاقية كانت ترفضها فحسب ، ولكنه حال دون استمرار الاندفاعة الإسرائيلية لتكريس مشروعها الصهيوني في فلسطين والمنطقة عبر انتصار شامل، بحسب تعبيرات نتنياهو ، بل ليفشل هذا الصمود سلسلة التوابع الإستراتيجية من أنماط الاحتلال المتعددة، عسكرية واستيطانية، وإعادة هندسة، إلى التهجير الواسع أو الكامل.
ان حلم نتنياهو كان فرض الانكسار والهزيمة والاستسلام على عموم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، منتهجاً أساليب الصدمة والترويع والقصف السجّاديّ والإزاحة السكانية والأحزمة النارية، وبنحو يزيد على الخبرة التاريخية في الصراع معها ، وللتغطية على إرادة طمس ملف الأسرى ، فرفع شعارًا مُعلنًا بأنّ الأسرى سيعودون بمحض القوّة العسكرية، وبالاقتران مع القضاء على حركة حماس واستئصالها ، لكنه اليوم يرضخ للامر الواقع ويخيب ظنه رغم انه ما زال يزيد من اخفاقاته حتى في اللحظات الأخيرة قبيل تطبيق قرار وقف اطلاق النار بمواصلة اسلوب الإبادة المكشوفة والمعلنة صبيحة اليوم الاحد .
اليوم "نيتنياهو" ما زال يكابر ويدافع عن رقبته المطلوبة لدى محاكم كيانه وقبل عدالة العالم ثم عدالة السماء ، لكنه سيسجّل في صحائف التاريخ كسياسي تعبّأت من خلفه أقوى جيوش الأرض ، لكنه عجز عن تحقيق النصر الذي وعد به ناخبيه المتعطّشين للدماء.
اليوم مشاهد فرحة النصر انفجرت في أوساط فلسطينيي مخيمات غزة المهجّرين والمطرودين من بيوتهم بفرحة لا توازيها فرحة ، ذلك أن ثقافة ووعي الفلسطيني المقاوم بطبعه تجعله يدرك أن المفاوضين الفلسطينيين لم يكن ليعلنوا القبول بوقف الحرب لولا يقينهم ان المقترح لوقف إطلاق النار هو انتصار في حد ذاته ، ولأن المبادرة التي سرى على اساسها الاتفاق اعادت القضية الفلسطينية إلى المعادلة الإقليمية ، وهذا تحقيق يرجح كفة القضية الفلسطينية ويعيد لها أمل النصر والظفر بالأرض المغتصبة ، ناهيك انها تمكّنت من نقل المعركة من الزاوية الضيقة التي أراد البعض حشرها فيها، بين ضلعين غير متوازنين : احتلال مسنود دوليا وعسكريا وشعب أعزل ومعزول ، إلى رحابة الحسابات الإقليمية والدولية ، وبذلك فقد فشل مخطط التصفية الذي كاد ينهي المعركة لصالح الاحتلال .
واخيرا فقد انتصرت غزة بصمودها الأسطوري رغم كل الجراح والتدمير ، لأنها أحيت القضية الفلسطينية في الشارع والوجدان والضمير الإنساني العالمي ، وكشفت الوجه القبيح لدول الغرب المنافق ، ووضعت تجار القضية المشتركين في أخوة الدم والعرق والدين أمام وجوههم الحقيقية في مرآة التاريخ.
والله ولي الصابرين