وزارة الكفاءة الحكومية: "آخِر الدَّواء الكيّ"
الدكتور فؤاد كريشان
15-02-2025 01:27 PM
بعيدا عن صخب التصريحات الامريكية في مجال السياسة الخارجية ثمة سياسات اقتصادية تستحق ان يسلط عليها الضوء لمحاولة فهمها، ففي خطوة غير مسبوقة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إنشاء وزارة الكفاءة الحكومية والتي باتت تعرف Department of Government Efficiency (DOGE). تُعنى هذه الوزارة بترشيد الإنفاق الفيدرالي والحد من الهدر المالي (الهدف المعلن)، وقد اختار ترامب الملياردير إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، لقيادة هذه الوزارة. وتأتي هذه الخطوة في إطار الجهود الأمريكية لخفض العجز الفيدرالي وتعزيز كفاءة الإنفاق الحكومي، وكانت بداية هذه الاجراءات الغاء الوكالة الامريكية للتنمية (USAID) وهو ما اثار جدلا واسعا حول تداعيات هذا القرار على الساحة الدولية.
ووفقًا لتقارير إعلامية، فإن وزارة التعليم تُعد واحدة من أبرز الجهات المستهدفة بترشيد الإنفاق ايضا، إلى جانب وزارة الصحة خاصة بعد تعيين روبرت كينيدي جونيور لقيادتها. وقد بدأت فرق العمل التابعة لوزارة الكفاءة الحكومية، بقيادة ماسك بمراجعة أنظمة الدفع والتعاقد في العديد من مراكز الخدمات الفيدرالية مع التركيز على كشف حالات "الاحتيال" حسب كلام الرئيس الامريكي أو الهدر المالي.
وتسعى الوزارة إلى إحداث إصلاح هيكلي واسع النطاق في الإنفاق الحكومي، وهو ما يعتبر تحديًا كبيرًا في ظل تاريخ طويل من المحاولات الفاشلة لخفض النفقات. ففي عام 2010، على سبيل المثال، اقترحت لجنة "سيمبسون-بولز" تخفيض بقيمة 4 تريليونات دولار على مدى عقد من الزمان، من خلال وضع حد أقصى لتكاليف الرعاية الصحية وإلغاء الإعفاءات الضريبية. إلا أن هذه الجهود لم تنجح بسبب مقاومة الوحدات الحكومية وعدم استعدادها لتبني إجراءات تقشفية صارمة.
يرى ماسك أن الإنفاق الحكومي المفرط هو السبب الرئيسي لعجز الموازنة في الولايات المتحدة، وقد دعا إلى تقليص هذا الإنفاق للحد من العجز وتحسين كفاءة الحكومة الفيدرالية. ومع ذلك، فإن تحقيق هدفه المعلن بخفض الإنفاق بمقدار تريليوني دولار يُعتبر بعيد المنال، خاصةً أن جزءًا كبيرًا من الميزانية مخصص لبرامج لا يمكن تقليصها بسهولة، مثل الضمان الاجتماعي والدفاع. بالإضافة إلى ذلك، يُثار جدل حول أن هذه الاجراءات قد تصب في مصلحة الأثرياء والشركات الكبرى، حيث يمكن أن تؤدي إلى تخفيض الضرائب المفروضة عليهم، وهو ما قد يثير تساؤلات حول مدى عدالة هذه السياسات وتأثيرها على الفئات الأقل دخلًا في المجتمع الأمريكي.
وعلى الجانب الاخر يمكن أن تشكل تجربة وزارة الكفاءة الحكومية الأمريكية نموذجًا ييستفاد منه للدول التي تعاني من عجز متنامي في موازناتها، خاصة في الدول النامية التي تواجه تحديات مالية كبيرة، و تسعى جاهدة إلى خفض العجز في موازنتها العامة من خلال الحد من النفقات ورفع كفاءة الإنفاق العام. ففي الاردن على سبيل المثال، كانت هناك دعوات كثيرة من العديد من الخبراء إلى ضرورة السيطرة على النفقات الحكومية، وزيادة حجم الإنفاق الرأسمالي لتعزيز النمو الاقتصادي، حيث بلغت نسبة الدين العام للعام الحالي قرابة 116.1% من الناتج المحلي الإجمالي، مع تسجيل عجز في الموازنة العامة للعام الحالي بلغ 2.2 مليار دينار، وهو الأعلى في تاريخ البلاد.
وتشير الأرقام إلى أن المؤسسات والهيئات المستقلة في الأردن، والتي يبلغ عددها 26 مؤسسة، تساهم بشكل كبير في العجز، حيث بلغ إجمالي نفقاتها للعام الماضي 1.66 مليار دينار مقابل إيرادات بلغت 852 مليون دينار فقط، مما خلف عجزًا قدره 810 ملايين دينار.
لا شك ان ما تقوم به الحكومة الحالية من ترشيد للنفقات من خلال سلسلة من القرارات تصب بالاتجاه الصحيح، حيث اصدرت مؤخرا بلاغًا يقضي بمنع سفر الوزراء ورؤساء الهيئات والمؤسسات الرسمية ومدراء الدوائر الحكومية إلى الخارج، إلا للاجتماعات الرئيسة والضرورية التي تقتضيها مهام وزاراتهم ومؤسساتهم. يمكن للحكومة الاردنية أن تتوسع في هذا المجال مدعومة برؤية التحديث الاقتصادي و الاداري وذلك لاجراء مراجعة شاملة للنفقات الحكومية، بهدف ترشيدها، وذلك من خلال تكليف فريق متخصص يعنى بمراجعة دقيقة وعلمية للنفقات العامة و إصلاح أنظمة المشتريات لكافة الوزارات والهيئات الحكومية بأستخدام تحليل البيانات لتتبع الهدر المالي اينما وجد، مع إمكانية إلغاء أو إعادة توجيه أو تقليص بعض النفقات غير الفعالة. كما يمكن النظر في دمج أو إلغاء بعض الهيئات المستقلة التي ترهق كاهل الموازنة العامة دون تحقيق عوائد اقتصادية ملموسة بالإضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز كفاءة تحصيل الإيرادات من خلال تبني أنظمة تقنية متطورة.
في الختام، إن تبني مثل هذه السياسات لا يعني بالضرورة نقل التجربة الأميركية حرفيًا، ولكن الاستفادة منها بما يتناسب مع احتياجات الواقع الاقتصادي والاجتماعي للدول، اذ أن نجاح أي جهود لخفض العجز في الموازنة ورفع كفاءة القطاع العام يتطلب إرادة قوية واستعدادًا لتبني إجراءات تقشفية قد تكون مؤلمة في البداية، لكنها ضرورية لتحقيق الاستقرار المالي على المدى الطويل، وكما يقول المثل العربي: "آخر الدواء (الداء) الكي".