سلامٌ على الفوضى المنظمة حين يصبح العبث إصلاحاً !
م. عامر البشير
25-02-2025 11:12 AM
ظلّت الفوضى المنظمة تعمل وفق ناموسٍ دقيق، تحكمها توازناتٌ وتفاهماتٌ ضمنية، حيث يبدو كل شيء في ظاهره عبثيًا، فاقدًا للمنطق، غير أن جوهره يسير بإيقاعٍ متناسق، خاضعٍ لميزان غير مرئي، تُرتَّب الأمور دون قرارات حاسمة، وتُحسم الملفات دون غايةٍ واضحة، إذ لم يكن الهدف يومًا بناء نظام متكامل، بل الإبقاء على الوضع قائمًا كما هو، بأقل قدرٍ من الاضطرابات، وأكبر قدرٍ من المكاسب.
كان القائمون على الأمر يتوارثون عقليةً راسخة "ما كان بالامكان افضل مما كان" ليس اقتناعا، بل خوفًا من البديل، لم يكن الطموح إلى التغيير جزءا من المعادلة، بل كان الحفاظ على التوازنات القائمة هاجسهم الأول، لأن أي اختلال، مهما بدا طفيفا قد يؤدي إلى انهيارٍ يصعب احتواؤه، وهكذا ظلّت الادارات تدور في حلقة، تُكرّس القديم وتعيد إنتاج الأخطاء، لكنها تحافظ عليها في حدودٍ طفيفة، إذ كان الجمود، رغم كوارثه، يُعتبر أهون الشّرور.
لكن كما هي العادة، عندما يظهر ذلك القادم "جديد لكن مجرّب" الذي يزعم امتلاك الحلول السحرية، رغم خوائه، يمارس التدليس بإيهام الآخرين بأنه يحمل مفتاح الخلاص، لا يراودهم شكّ في قدرته على إعادة ترتيب الأمور وفق رؤية لم تتجاوز حدود مخيّلته، ولم تُختبر في أي ميدان يدخل المشهد محمّلا بمشاريع لا تتعدى كونها عناوين برّاقة لا تنبع من فهم للواقع، بل من حماسٍ طاغٍ ورغبةٍ جامحة في إقناع فئة محدودة انفردت بالقرار وسلّمته زمام الامور بالرغم ان أفكاره سطحية وتجربته دون الصّفر .
إلا أن مشكلته الكبرى لم تكن في قلة خبرته فحسب، بل في افتقاده إلى رؤية، يتبنّى وجهة نظر آخر شخص جلس معه، حتى لو كان حديثه محض هراء، وما يسمعه مساءً، يتحوّل صباحًا إلى مشروعٍ لا يكاد ينتهي بمساء ذات اليوم حتى تصبح مبادرته مادةً للسخرية داخل حلقة من التافهين الذين يملكون من الجرأة أكثر مما يملكون من الفهم، فيتراجع عنه بلا خجل، ليتبنّى رأيا آخر بنفس الحماسة، وكأن شيئًا لم يكن.
وما إن تدخّل حتى اختلط الحابل بالنابل، وانهارت التوازنات التي طالما حُفظت باتفاقياتٍ غير مكتوبة، وانفرطت المعادلات التي رغم عشوائيتها الظاهرة، كانت تشكّل إطارًا عامًا يحول دون الانهيار الشامل، فجأةً، لم يعد هناك نظامٌ يُسيّر الفوضى، بل تحوّلت الفوضى ذاتها إلى نظامٍ جديد، أكثر ارتباكًا وضياعًا، بلا ضوابط، بلا توازنات، وبلا قدرةٍ على استيعاب المتغيرات غير المحسوبة.
لم يكن تدخله مدروسًا، حتّى لم يكن صاحب درايةٍ أو خبرة، بل كان مفتقرًا لأبسط مقومات الإدارة، لم يسبق له أن أدار حتى دكاناً، فكيف يُسلَّم زمام أمورٍ كبرى؟ ظنّوا عندما كان مستمع أنه عميق ولديه الكثير ليصلح، وما ان اطلقوا يده فإذا به يُفسد، اعتقدوا أنه سيُهندس والواقع هو لا يفقه الهندسة ولا القانون، ولقب اكاديمي اجزم لا يعرف منه اسماء مواد الخطة الدراسية، فإذا به يهدم، كان واثقًا أن القرارات الحاسمة كفيلة بحلّ المشكلات المزمنة، لكنه سرعان ما اكتشف أن الواقع أكثر تعقيدًا مما تصوّر، وأن الفوضى التي ظنّها سهلة التفكيك لم تكن إلا متاهةً من المصالح المتشابكة، حيث لا يمكن لمس خيطٍ واحدٍ دون أن تترنّح بقية الخيوط وينكشف المستور
وحين أدرك متأخرًا حجم الكارثة التي صنعها، لم يكن أمامه سوى التراجع لكن لم يكن خيارًا متاحًا، إذ انهارت التوازنات القديمة، ولم تتشكّل بعد توازناتٌ جديدة، فبات كل شيء في حالة ضياعٍ مطلق، حيث أصبحت استعادة الحد الأدنى من النظام ضربًا من الخيال، بل من سابع المستحيلات.