تدفق معرفي وتقنيات قادمة: هل التعليم العالي مستعد؟
د.عدي المعايطة
07-03-2025 01:15 PM
نعيش عالمًا تتخطى فيه الآلات حدود المعرفة البشرية، وتصبح الخوارزميات الذكية هي لغة العصر. وهنا، يقف التعليم العالي أمام تحدٍ حاسم: هل يمكنه مواكبة هذه الثورة المعرفية، أم أنه سيترك قطار المستقبل يفوت؟ هذا التحول يفرض على مؤسسات التعليم العالي إعادة التفكير في مناهجها وبنيتها التحتية، ففي الأردن مثلا، حيث يمتلك الشباب إمكانات هائلة، يطرح السؤال نفسه: هل نستثمر بالشكل الكافي في هذا المجال الحيوي؟ وهل نحن مستعدون لتخريج جيل قادر على قيادة ثورة الذكاء الاصطناعي؟.
باتت جامعاتٌ عديدةٌ تُقدِم على إنشاء مراكز بحثية وتطويرية مختصة بالذكاء الاصطناعي، إضافةً إلى تجهيزها بالبنى التحتية اللازمة لدعم الابتكار والبحث العلمي. وفي الأردن، تتوفّر بنية تحتية جيدة في أغلب الجامعات من حيث سرعة الإنترنت وتوافر المختبرات العامة المجهزة، غير أن هناك تساؤلات ملحّة حول مدى الاستفادة من هذه الإمكانيات في دفع البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي.
يواجه التعليم العالي في الأردن تحدّيًا يتمثّل في محدودية الإنفاق على البحث العلمي المتخصص في الذكاء الاصطناعي، إذ إنّ الجامعات لا تولي حتى الآن اهتمامًا كافيًا لإنشاء مراكز بحثية تُعنى بالتقنيات الحديثة من تعلّم الآلة والحوسبة المتوازية ومعالجة البيانات الضخمة. فمعظم الجهود القائمة لتنفيذ مشاريع متقدمة في الذكاء الاصطناعي لا تزال مبادراتٍ فرديةً من باحثين أو طلبة في كليات الهندسة وتكنولوجيا المعلومات، يفتقرون إلى مظلّةٍ مؤسسيةٍ شاملةٍ أو دعم مالي يغطي التكاليف الباهظة للأجهزة والمعدات اللازمة لتطوير حواسيب خارقة ومعامل متخصصة.
إنّ تجهيز الجامعات بمراكز بحثية مزوّدة بحواسيب عالية الأداء ذات بطاقات معالجة رسومية (GPUs) متقدمة ضروري لإنجاز مشاريع بحثية طموحة في مجال تعلّم الآلة والرؤية الحاسوبية وتحليل البيانات الضخمة، و يمكن ربط تلك الحواسيب لبناء حواسيب خارقة بتكلفة منخفضة نسبياً.
ورغم أن لدى بعض الجامعات مختبراتٍ مجهّزةً بالتقنيات العامة، إلا أنّ إنشاء بنية تحتية بحثية متقدمة يتطلب رؤيةً أوسع من توفير المعدات الأساسية. فامتلاك إنترنت سريع ومختبراتٍ دراسية يمثّل الأساس، ولكن التميّز في مجال الذكاء الاصطناعي يتطلّب دعمًا أكبر وأعمق لتطوير مراكز متخصصة، وتشجيع الباحثين على إجراء أبحاث تطبيقية تخدم واقع السوق المحلي والعالمي.
من هنا، تبرز الحاجة إلى وضع إستراتيجياتٍ وطنية تدعم تخصيص موازناتٍ للبحث العلمي التطبيقي في مجال الذكاء الاصطناعي، وتوفير حوافزٍ لاستقطاب الكفاءات الأكاديمية والشركات التقنية. كما يمكن تعزيز التعاون بين الجامعات والمؤسسات الصناعية لتأسيس مختبراتٍ مشتركة، تتيح للطلبة والباحثين تطوير حلولٍ متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي. فالتعلّم والبحث والابتكار باتت منظومةً مترابطةً تعتمد على عامل التكنولوجيا ليس بصفته أداةً ثانوية، بل بكونه مرتكزًا ومحورًا لمنهجية التعليم والبحث الحديثة.
ولئن كانت بعض الجامعات تُظهر بوادر إيجابية في رقمنة جزءٍ من أعمالها أو إدماج الذكاء الاصطناعي في مناهجها، فإنّ الأمل معقودٌ على مزيدٍ من الخطوات المؤسسية الجادّة لإنشاء مراكز تميّز تُعنى بحوسبة البيانات الضخمة وتطبيقات تعلّم الآلة، وتعمل على تهيئة مختبراتٍ ضخمةٍ للحوسبة المتوازية وتحليل البيانات. فهذه الخطوات ستضع الجامعات الأردنية في مصاف المؤسسات الأكاديمية القادرة على المنافسة العالمية، وترفد الاقتصاد المحلي بكفاءاتٍ مطلوبةٍ في السوق الناشئة لتقنيات الذكاء الاصطناعي.
ولأنّ المستقبل لا حدود لإمكانات فلعلّ ما ينتظرنا من تطوّراتٍ لا يقتصر على توظيف الذكاء الاصطناعي فحسب، بل يمتدّ إلى مواجهة التحديات الراهنة في التعليم العالي الأردني وطرح حلولٍ مبتكرةٍ تأخذ بعين الاعتبار واقعنا المحلي وطموحاتنا المستقبلية. في المقالات القادمة، سنخوض في تفاصيل هذه المشكلات المتراكمة، ونناقش السبل الكفيلة بتحويلها إلى فرصٍ حقيقيةٍ للارتقاء بجودة التعليم، حتى نرسم معًا خارطة طريقٍ واضحةٍ نحو تعليمٍ جامعي أكثر كفاءةً وابتكارًا.
*د. عدي المعايطة – أستاذ جامعي وخبير تقني.