رقمنة شكلية .. وخدمات بلا تنفيذ
م. عامر البشير
11-03-2025 10:42 AM
يشهد الأردن توسعًا متسارعًا في التحول الرقمي للخدمات الحكومية، حيث أصبحت المنصات الإلكترونية أداةً مركزية لتعزيز الكفاءة والتواصل مع المواطنين ولكن، رغم هذا التقدم التقني، يبرز خلل جوهري: غياب الأثر الفعلي على أرض الواقع في بعض القطاعات، فبينما تسهّل العمليات الرقمية تقديم الشكاوى وطلبات الخدمات، تظل النتائج الملموسة بعيدة المنال، مما يجعل الرقمنة مجرد واجهة سطحية—وهمًا بالتقدم أكثر من كونها تحسينًا حقيقيًا للخدمات العامة.
النجاح التقني: شكل بلا مضمون
عندما يقدم المواطن شكوى عبر منصة إلكترونية—على سبيل المثال، حول تراكم نفايات في مكان او شارع او حيٍّ ما—يتلقى سلسلة من الإشعارات الآلية: تأكيد استلام الشكوى، إحالتها إلى الجهة المختصة، وأخيرًا إشعار بحل المشكلة خلال أيام قليلة. على الورق، يبدو النظام مثاليًا، مع تتبع دقيق، وتوثيق آلي، واستجابات سريعة. ولكن، هل تؤدي هذه السلسلة إلى تغيير حقيقي؟
فشل التنفيذ: إنجازات ورقية بلا فعل حقيقي
رغم كفاءة النظام في تسجيل الشكاوى ومعالجتها رقميًا، هناك فجوة صارخة بين السجلات الرقمية والتنفيذ الميداني الذي يثبت فشل عملياتي فالإعلان عن "حل" الشكوى لا يعني بالضرورة أن فرق العمل قد تم إرسالها، أو أن المشكلة قد تم تصحيحها، وهذا يطرح تساؤلات ملحة: من يضمن أن الحلول المسجلة تعكس الواقع؟ وأي جهة تتحمل مسؤولية التحقق من تقديم الخدمة فعلًا؟ بدون رقابة صارمة، يصبح النظام الرقمي مجرد أداة للتلاعب الإداري بدلًا من أن يكون وسيلة لتعزيز الكفاءة.
عواقب خطيرة: الإحباط الشعبي وتآكل الثقة
عندما يتلقى المواطنون إشعارات تدّعي حل مشكلاتهم ولكنهم لا يرون أي تغيير حقيقي، يتحول تفاؤلهم الأولي إلى إحباط، مما يؤدي في النهاية إلى فقدان عميق للثقة في المؤسسات العامة. ومع تراكم هذه التجارب، يتراجع الإقبال على القنوات الرسمية، ويزداد الشك تجاه جهود تحسين الخدمات. والأسوأ من ذلك، أن هذا الإحباط الجماعي يضعف أي محاولات إصلاح مستقبلية، حيث يصبح المواطنون مقتنعين بأن التغيير الحقيقي مستحيل.
رقمنة بلا إصلاح: خلل إداري مستمر
التحول الرقمي الحقيقي لا يعني مجرد استبدال النماذج الورقية بواجهات إلكترونية، بل يتطلب إعادة هندسة العمليات لضمان الكفاءة والشفافية والتأثير الفعلي، لكن في هذه الحالة، تم نقل الإجراءات البيروقراطية التقليدية إلى منصات رقمية دون معالجة أوجه القصور الأساسية.، وبدلًا من تسريع تقديم الخدمات، أضافت الرقمنة طبقة جديدة من الغموض، حيث أصبحت المساءلة محجوبة خلف الإشعارات الآلية والواجهات الرقمية غير الشفافة.
النتيجة:اختلالات في الإدارة الرقمية
لقد أدى غياب الشفافية والمساءلة في هذا النموذج الرقمي إلى ظهور شكل حديث من الفساد الإداري، فقد باتت كفاءة حل الشكاوى تخضع لعوامل غير رسمية—كالمحسوبية والعلاقات الشخصية والانتقائية في الاستجابة—رغم أن النظام صُمم ليكون عادلًا، فالقليل من الشكاوى تُعالج بسرعة، بينما تبقى أخرى دون حل إلى أجل غير مسمى، مما يعيد إنتاج أوجه القصور القديمة تحت غطاء التحديث الرقمي.
اعتماد الإدارة العليا على مؤشرات خاطئة
بالنسبة للإدارة العليا، تُعد تقارير الأداء التي توضح عدد الشكاوى المقدمة والمغلقة -اي المنجزة- دليلًا على نجاح النظام. ولكن في كثير من الأحيان، تعكس هذه الأرقام صورة مضللة، تشكل حالة وهم ليست حقيقية تخفي الفشل الخدمي بدلًا من أن تعكس الانجازات الحقيقية، وبدون آليات تحقق صارمة، تصبح هذه البيانات أداة لتعزيز الرضا الذاتي البيروقراطي بدلًا من أن تكون محركًا للإصلاح الفعلي، وهكذا، تظل القيادات الإدارية منفصلة عن الواقع الميداني، معتمدة على مؤشرات خاطئة تعزز دورة من التمجيد الإداري الذاتي.
الحل: ربط العمليات الرقمية بالتنفيذ الفعلي
لتحقيق تحول رقمي حقيقي، يجب دمج الأنظمة الإلكترونية مع آليات صارمة للتحقق الميداني والمساءلة، عبر:
1 ) تعزيز الرقابة الميدانية لضمان حل المشكلات فعلًا قبل تسجيلها كـ"منجزة".
2 ) إلزام الجهات التنفيذية بتوثيق الحلول عبر صور موثقة أو تأكيدات موقعة من السكان المحليين.
3 ) إدخال آليات تقييم من قبل المواطنين، تتيح لهم الإبلاغ عن المشكلات غير المحلولة وتقييم جودة الخدمة.
4 ) تحليل الشكاوى غير المنجزة لاكتشاف أوجه القصور الإدارية وإجراء التصحيحات اللازمة.
5 ) تحويل معايير الأداء من عدد العمليات المُنفذة إلى مؤشرات جودة الخدمة الحقيقية، بحيث يُقاس النجاح الرقمي بناءً على الأثر الفعلي في حياة المواطنين.
الخاتمة: رقمنة شكلية أم إصلاح حقيقي؟
لا يُقاس نجاح التحول الرقمي بعدد الإشعارات المرسلة أو التقارير المولدة، بل بمدى التحسينات الملموسة التي يشعر بها المواطنون، هذه الحالة تكشف خللًا إداريًا جوهريًا يتطلب إصلاحًا جذريًا، فلا قيمة لنظام إلكتروني متقدم إن لم يترجم إلى تنفيذ فعلي على أرض الواقع، وإذا لم نسدّ الفجوة بين الرقمنة والواقع الميداني، فإننا نخاطر بإنتاج مجتمع غارق في الإحباط، بينما تتباهى المؤسسات بوهم النجاح الرقمي.
فهل نحن مستعدون لمواجهة هذه الحقيقة والالتزام بالإصلاح الحقيقي؟ أم أننا سنستمر في إنتاج المزيد من التقارير والإشعارات، ومكافأة المسؤولين على إنجازات وهمية، بينما يستمر الفشل في تقديم خدمات حقيقية؟