الأفق السياسي ومستقبل الحزب المدني الديمقراطي
د. بسام العفيشات
30-03-2025 04:14 PM
إن التجربة الحزبية في الأردن تمثل إحدى المحطات الهامة التي تكشف بوضوح عن التحديات التي يواجهها اليسار المدني في سعيه لتحقيق حلم تعزيز مدنية الدولة الحديثة، التي تقوم على احترام حقوق الأفراد وتحقق العدالة الاجتماعية والمساواة. ومن هذا المنطلق، جاءت فكرة تأسيس الحزب المدني الديمقراطي الأردني كنتيجة لوعي عميق بحتمية وجود دولة مدنية تتناغم فيها الديمقراطية الاجتماعية، تلك التي تجمع بين الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية في إطار من التكامل والتوازن. لكن هذا المسار، كغيره من مسارات التغيير، لا يخلو من تعقيدات وصراعات تُرخي بظلالها على مستقبل المشروع.
في بدايات تأسيس الحزب، اجتمع أعضاؤه على المبادئ الأساسية، التي شكلت الركيزة الأولى لوجوده، وأصبحت هذه المبادئ لاحقًا علامة فارقة تميز الحزب عن غيره. كان الهدف واضحًا، وهو تحقيق توازن بين الحقوق والواجبات في المجتمع الأردني، وفتح الطريق نحو المستقبل عبر إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة تُسهم في رفاه المجتمع. لكن مع مرور الزمن، بدأت التيارات الفكرية والسياسية المختلفة تظهر داخل الحزب، كل تيار يحمل تصوره الخاص للمستقبل.
وإذا نظرنا إلى هذه التيارات عن كثب، نجد أن التيار الأول كان يصر على التمسك بالمبادئ الأصلية التي بُني عليها الحزب، معتبرًا أنها الأساس الذي ينبغي ألا يتزحزح. في حين كان التيار الثاني اليسار التقدمي يروج لفكرة التغيير الجذري، ويطالب بثورة اجتماعية واقتصادية تُمهد الطريق لبناء واقع مختلف كليًا. أما التيار الثالث فكان يدعو إلى تبني النموذج الليبرالي، الذي يركز على تعزيز الحريات الفردية وتقليص دور الدولة في الاقتصاد.
لكن التعدد الفكري داخل الحزب لم يكن بالضرورة نقطة ضعف، بل كان تجسيدًا للتنوع الثقافي والسياسي الذي يعكس تعدد الرؤى في المجتمع الأردني. هذه الصراعات الفكرية بين الماضي والمستقبل، وبين الأيديولوجيات المتناقضة، هي التي شكلت النقاشات الداخلية وأعطت الحزب حيوية وفكرًا نقديًا، رغم أنها أسفرت عن انقسامات وتوترات في العديد من المحطات.
وبالرغم من أن الحزب كان يسعى إلى بناء قاعدة مشتركة تضم جميع التيارات، إلا أن التيار الثاني والتيار الثالث لم يرغبا ومنذ البداية في فتح باب الحوار مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي. فقد كانت حجتهم أن هذه الخطوة تضعف مساعيهم، وهي مبكرة وسابقة لأوانها. وعند اقتراب موعد الانتخابات النيابية، سارعوا للترشح ضمن قائمة التيار الديمقراطي بالتحالف مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي، في خطوة كانت تعبيرًا عن انشغالهم بتكريس القيم الانتخابية على حساب التأسيس الحزبي الجاد وبناء الحزب.
بعد نتائج الانتخابات، بدأ الحزب يشهد حالة من الانقسام والصراع على النفوذ، حيث ظهرت الانشقاقات بشكل واضح نتيجة للتنافس على المواقع والمصالح. هذا النزاع بين القوى المختلفة داخل الحزب كان يعكس، للأسف، ضعفًا في الهيكل التنظيمي وتشتتًا في الرؤى السياسية. ومع ذلك، لم يكن هذا الصراع مدمرًا للحزب بقدر ما كان علامة على مرحلة انتقالية يمر بها أي حزب يسعى للحداثة والإصلاح، تلك التي لا بد أن يواجه فيها تحديات موازية لمراحل تكوينه الأولى.
في قلب هذه التحولات، بقي التيار الأول - الذي نمثله - متمسكًا بمبادئ الحزب الأصلية، وأصر على ضرورة الحفاظ على هذه المبادئ كإطار مرجعي لتعزيز مدنية الدولة المنشودة. ولذا، كان هدف المرحلة هو تصحيح المسار، وتعميق الالتزام بتلك المبادئ التي تقوم على الاعتراف بالتنوع الفكري والبحث عن توافق يضمن مصلحة الجميع.
وفي النهاية، كانت خطوة الاندماج مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي بالنسبة لنا أولوية وضرورة استراتيجية تمهيدًا لتوحيد الجهود بين القوى اليسارية المتنوعة، وتحقيق الهدف الأسمى المتمثل في بناء دولة مدنية تقوم على العدالة والمساواة، بعيدًا عن الخلافات الأيديولوجية التي قد تعيق تحقيق الإصلاحات الجذرية التي يحتاجها المجتمع الأردني.
تظل تجربة الحزب المدني الديمقراطي الأردني، بما تحمله من تحديات وانتكاسات، درسًا فلسفيًا وعلميًا في كيفية إدارة التنوع الفكري والبحث عن توافقات تنقذ المشروع الوطني من الانقسامات الداخلية. إن هذه التجربة تؤكد على أهمية التعددية، وعلى ضرورة وجود حوار مستمر بين تيارات الحزب، بما يساهم في الوصول إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تعكس تطلعات الشعب الأردني في تعزيز مدنية الدولة الحديثة تضمن حقوق الإنسان وتستجيب لتحديات العصر.