وصية الجد عبدالله غوشة .. ومسيرة الحفيد
م. عامر البشير
02-04-2025 02:02 PM
وهو يتقدّم لموقع نقيب المهندسين باقتدار وثبات
بكل فخر وامتنان، أضع هذه الكلمات في حضرة الذكرى، ورفقة الوفاء، وأنا أستحضر سيرة رجلٍ كبيرٍ في علمه وورعه، الغائب الحاضر سماحة الشيخ عبد الله شحادة غوشة– قاضي القضاة، ومفتي المملكة، العالمٌ الجليل الذي ظلّ قلبه معلّقًا بالحق، ولسانه شاهدًا على الخير، وقلمه أمينًا على رسالة العلم والعدل.
ولأن الأرواح النقية لا ترحل، بل تبقى حيّة فينا، تنبض في لحظات المفصل وتنبعث حين يتقدّم الأبناء نحو مواطن المسؤولية، رأيته في خاطري، كأنما خرج من صمت الغياب، ليخطّ وصية وجدانية، لا بالحبر ولكن بنور الحكمة والمحبة، لحفيده المهندس عبد الله عاصم غوشة، المهني الذي صقلته التجارب، وورث من جده رفعة الخُلق، وثبات الموقف، ومن والده حسن المعشر وطيب القلب ونظافة اليد.
تخيلته، بعين القلب، يضع يده على كتف حفيده، قائلاً له:
يا عبد الله، إن النقابة ليست منصبًا تُبلغ به شرف الجلوس على الكرسي، بل ميدان تُختبر فيه الإرادة، وتُوزن فيه القيم، وتُحمل فيه الأمانة، سرْ إليها كما عرفتني، ثابتًا، صادقًا، نقيّ السريرة، ولا تنظر إلى المنصب بل إلى الرسالة، إنك من معدن لا يلين، ومن بيتٍ عُرف بالخير والمسؤولية، فكن كما عهدناك، صوتًا للحق، وسندًا لزملائك، وعهدًا على أن تظل المهنة في مأمن، والنقابة في ازدهار.
هكذا سمعت صوته في داخلي، وهكذا رأيت عينيه تلمعان بالفخر، وهو يراك تتقدّم بثبات إلى استحقاق كبير، جدير بك، وجدير بك أن ترفعه، كما ترفع الأمانة في القلب والعقل والعمل ويكمل الجدّ:
يا بني، لقد ورثتَ الاسم، لكن الأهم أنك حملت المعنى، إياك أن تنسى أن عبد لله لم يكن يومًا لقبًا فحسب، بل سيرةٌ في الصدق، وموقفٌ في العدل، ومقامٌ في خدمة الناس، تقدم للناس بوجهك الصادق، وخاطب عقولهم بمهنيتك، وقلوبهم بإنسانيتك، لا تغرّنك المناصب، فالكرسي زائل، والناس باقية، وسيرتك فيهم هي الميزان، كن كما عهدناك، نقياً في الفكر، ثابتًا في المبادئ، وسبّاقًا إلى خدمة زملائك، لا ساعيًا إلى مجدٍ ذاتي، بل إلى نفعٍ عامّ.
يا عبد الله،
انا ما كنتُ يومًا صاحب ثروةٍ تُحصى، أو سلطانٍ يُهاب، لكنني وُلدتُ غنيًّا بما لا يُشترى، بإرثٍ من المعنى، وبذخٍ من القيم،
واليوم، وقد صار القلبُ يميل إلى السكون، أحمّلك ما هو أثقل من الذهب، وأخفّ من النسيم، حكمة السنين، ونداء الروح، فاقبله كما يقبل الجدولُ رقّة الماء، دون أن يفقد اندفاعه.
نشأتُ انا في القدس، لا في حجرٍ منها، بل في وجدانها، حيث يصمت الناس لتتكلم الحجارة، وحيث الزوايا لا تُؤثث بالمقاعد بل بالذكريات، هناك، يا بُنيّ، تعلّمتُ أن القدس ليست حجرًا أو شجرًا، بل فكرة، إذا سكنت القلب صقلته، وإذا نُسيت أظلمت الحياة من بعدها، القدس لا تُباع، لأنها ليست مِلكًا والقدس لا تُنسى، لأنها ليست لحظة، بل نبوءةٌ سكنت التاريخ.
وحين ضاقت القدسُ بأهلها، فتحت عمّان ذراعيها، فاحتضنت جرحنا، وأكرمت حلمنا، وكانت، وستظل، التوأمَ الروحيَّ للقدس، عمّان لم تكن مجرّد مدينةٍ أقمنا فيها، بل وطنًا أقام فينا، وقيادةً هاشميةً حملت الوصاية كما يُحمل القسم، لا شعارًا على منبر، بل عهدًا في الدم، وسِفرًا في التاريخ، وموقفًا لا يلين.
يا حفيدي،
أنا قضيتُ العمر بين القضاء والفقه، كما تمضي أنت في البناء والمهنة، ولكننا، رغم اختلاف الساحات، من طينة واحدة، نؤمن أن الإنسان هو غاية العمران، وأن الأرض، مهما خضبتها الشعارات، لا تُزهِر إلا بعدل أهلها، وأن المؤسسات ليست جدرانًا تُقام، بل ضمائر تُبنى لتصون الكرامة، لا لتُمعن في التهميش.
اليوم، وأنت تجمع ما فرّقته التيارات، وتصوغ تحالفًا نقابيًّا غير مسبوق، أوصيك:
اجعل من وحدتكم رسالة، لا تكتيكًا، ومن اختلافكم ثراءً، لا خصومة، فالنقابة ليست مساحةً للصراع، بل منبرًا للعقل، وساحةً للوطن، دعها تكون بيتًا لا يضيق بمن فيه، وعدلًا رحبًا لا يتحامل على أحد.
تذكّر أنك تحمل هويتين لا تتنازعان، بل تتكاملان:
قدسية القدس، ورزانة عمّان، فلا تنسَ أن الأردن لم يكن ملاذًا طارئًا، بل قاعدةَ صمود، وقلبًا نابضًا، وقيادةً هاشمية، حين حملت الوصاية، حملتها كما يُحمل الوجع، صامتًا، ثابتًا، أصيلًا.
واعلم أن المشاريع التي لا تُبنى على البوصلة المقدسية، تبقى بلا روح، وأن الإخلاص للأردن – قيادةً وشعبًا – ليس خيارًا، بل شرطٌ للبقاء.
ابنِ مؤسساتك كما تُبنى القلاع، على صخرٍ من المبدأ، لا على رمل المصالح، وفي اللحظة التي قد يُغريك فيها التصفيق، أو يُرهقك الهتاف، ارجع إلى داخلك، حيث يقف الجدُّ بملامحه الصافية، يُذكّرك بأنّ من سار للقدس لا يتعب، ومن خدم الوطن الاردني لا يندم، ولو كثرت عليه العواصف.
أوصيك، يا عبد الله:
أن تحفظ القدس كما تُحفظ الآيات، لا تتبدّل، ولا تُنسى، ولا تُساوَم، وأوصيك بعمّان، التي كانت صدرًا لمن ضاقت به الدنيا، وسقفًا لمن فقد المأوى، وأوصيك أن تظلّ الجسر بين الضفتين، فإن ضاع الجسر، ضاع النبض.
كن كما يكون المهندس الحق، دقيقًا كالبوصلة، أمينًا كالقَسَم، نبيلاً كالغاية، وازن بين الصمت والصدى، ولا تغترّ ببريق اللحظة، فإن البصيرة أقوى من البصر، ابنِ، ولا تهدم، انصر الحق، ولا تُساير الباطل، اجعل من النقابة منصّةً للوعي، لا ساحةً للمغانم، واجعل من الصندوق أمانةً لا غنيمة، تذكّر، أنك لست نقيبًا للمهنة فقط، بل حامل رسالة جيل، وحلقةً في سلسلة رجال،
وقصيدةً في ديوان هذه الأمة الطويل، واذكر أنك من سلالة القدس، وغصنٌ من سنديان عمّان، وامتدادٌ لاسمٍ لا يُذكر إلا مقرونًا بالعدل.
فلسطين أمانة، والأردن هو السند، والهاشميون هم العهد، والقدس... هي القبلة التي لا نحيد عنها، كن كما أنت، بل كما تنتظرك الأمة أن تكون.
فأنت العبدُ لله...
وحفيد من حمل للحق لسانًا، وللعدالة ميزانًا، وللقدس قلبًا لا يخفق إلا باسمها.
وفّقك الله، وحماك لما يحبّ ويرضى،
إنه السميع، مجيب الدعاء.
الجدّ الشيخ عبدالله غوشة
بلسان م. عامر البشير