الفعل الثقافي تغييري أخلاقي في الأساس
جمال القيسي
07-04-2025 04:17 PM
الفعل الثقافي ليس نشاطًا ذهنيًا محايدًا ولا ترفًا معرفيًا منعزلًا عن حركة المجتمع؛ إنه في جوهره فعلٌ أخلاقي (Moral act) هذا ما أكّده أنطونيو غرامشي حين رأى أن "كل إنسان مثقف، لكن ليس لكل إنسان الوظيفة الاجتماعية للمثقف"، معتبرا أن المثقف الحقيقي هو من يعي مسؤوليته تجاه مجتمعه، ويتخذ من الثقافة وسيلة لممارسة النقد والتحرر. الأخلاق هنا لا تُفهم كمجرد التزام بالقيم العامة، بل كفعل تغييري جذري، نابع من وعي تاريخي وموقف حازم من الظلم والاستغلال والفساد.
كارل ماركس نفسه، المنشغل بالبنية الاقتصادية والتحليل المادي للتاريخ، كان يرى أن الوعي أي الثقافة هو الميدان الذي يُعبّر فيه الإنسان عن موقفه من العالم. وعندما كتب في الأطروحة الحادية عشرة عن فويرباخ: "لقد فسر الفلاسفة العالم بطرق مختلفة، ولكن المهم هو تغييره"، كان يزرع بذورًا للفعل الثقافي بوصفه فعلًا أخلاقيًا تغييريًا لا يرضى بالواقع كما هو. فالمثقف، وفق هذا المنظور، ليس مراقبًا، بل فاعلًا، وموقعه الأخلاقي يُقاس بمقدار انحيازه للعدالة والكرامة الإنسانية. هذا المقولة لا تزال تصلح كبوصلة لكل مثقف؛ فالمعرفة إن لم تتحول إلى أداة نقد ومقاومة وتغيير تظل ناقصة أخلاقيًا مهما بلغت من التميز. تماما كما يرى غرامشي في "دفاتر السجن: "لا يمكن للمثقف أن يكون محايدا؛ فالثقافة موقف، والحياد تواطؤ" هذه المقولة تلخص جوهر الفكرة: أن كل إنتاج ثقافي، حتى لو بدا تقنيًا أو جماليًا، يحمل خلفه تصورًا عن العالم، وعن الإنسان، وعن العدالة والمثقف الذي يتغافل عن هذا إنما يتنازل عن جوهر دوره.
في الحالة الأردنية تبدو هذه الفكرة ضرورية أكثر من أي وقت مضى تجاه المثقف الذي يعيش بين مطرقة الالتزام وسندان الترويض. بين الرغبة في قول الحقيقة والخوف من العزل أو التهميش.
لقد مرّت محطات كثيرة أظهرت، بشكل عام، هشاشة هذا الدور للمثقف الأردني مثل معاهدة وادي عربة وهبة نيسان 1989 وإضرابات المعلمين الأخيرة وغيرها من المحطات التي كشفت أن كثيرا من المثقفين لاذوا بالصمت بديلا المواجهة والاضطلاع بالدور الحقيقي.
السؤال الجوهري هنا: لماذا يخاف المثقف من أخلاقيته؟ أليست الكلمة، في الأصل، موقفًا؟ أليس الصمت في وجه القهر تواطؤًا؟ حين يصبح الفعل الثقافي مجرد إنتاج لغوي فارغ من الالتزام يتحول إلى سلعة، ويصبح المثقف موظفًا لا ضميرًا.
ماركس وغرامشي، رغم اختلاف السياقات، يلتقيان عند نقطة مركزية مفادها أن الثقافة لا تكتمل دون موقف، ولا معنى للموقف دون أساس أخلاقي. في إحدى رسائله، كتب ماركس: "ليست الأفكار هي التي تُحرّك التاريخ، بل البشر حين يؤمنون بأفكارهم". وهنا تبرز الأخلاق بوصفها محركًا، لا وعظًا.
هذه ليست دعوة إلى المثالية، بل إلى إعادة تعريف الالتزام ليس كخندق أيديولوجي، بل كاختيار إنساني جذري. أن تكون مثقفًا، يعني أن تضع الإنسان في مركز رؤيتك، وأن تنحاز للمستضعفين من الناس والمهمشين وتنتصر للطبقة المسحوقة ، أي أن تعكر صفو السلطة لا أن تهادنها، وأن تكتب، ليس لتملأ الفراغ، بل لتخترق الصمت.
إن الفعل الثقافي، حين يُنتزع من أخلاقيته، يفقد روحه. والمثقف الذي لا يرى في نفسه صاحب دور كبير في المسؤولية التاريخية، يتحول إلى بوقٍ للسلطة ودخيل غريبٍ على طبقة المثقفين.
لعلّ المثقف الأردني اليوم، في ظل مجازر الإبادة الصهيونية على غزة مدعو أكثر من أي وقت مضى، لأن يستعيد هذا المعنى: أن يفكّر ويكتب ويشارك، لا بوصفه مفسّرًا للعالم فقط؛ بل بوصفه مؤثرا في التغيير، وهذا هو جوهر الأخلاق في الثقافة.