facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




ذاكرةٌ لا تشيخ .. وميلادٌ لا يغيب


م. عامر البشير
08-04-2025 10:00 AM

مئوية مدرسة السلط الثانوية ومئوية ميلاد الدكتور محمد البشير، حين تتعانق الذاكرة مع الخلود.

في رحاب الذاكرة، حيث لا يُقاس الزمان بالساعات بل بالنبضات التي خلدها الحنين، تولد المعاني من رحم المكان، وتستيقظ الحكايات في دهاليز الروح كلما داعبت نسائم الذكرى جدرانًا عتيقة كانت يومًا مسرحًا لأحلام كبرى وعزائم لا تلين.

هناك، في السلط، المدينة التي تختزن في حجارتها مزيجًا من العلم والإرادة، تتوارث الأجيال قصة مدرسة لم تكن مجرد مقصد تعليمي، بل كانت رحمًا وطنيًا ومصهرًا لأرواح آمنت بأن العلم فعلُ خلاص، وبأن النور لا يولد إلا من رحم التضحية والمعاناة.

وفي هذا السياق الزمني المتشابك، نبلغ لحظة تأمل تتداخل فيها مئويتان، مئوية تأسيس مدرسة السلط الثانوية، ومئوية ميلاد أحد أبنائها البررة، التي تخرّج منها عام 1943، الدكتور محمد البشير، ليسَتا مجرد مناسبتين عابرتين، بل علامتان فارقتان على درب التشكل الوجداني والوطني لأمة آمنت بأن نهضتها تبدأ من قلم في يد طفل، وصَبر في قلب مُعلم، وصدق في مسيرة رجل.

مدرسة السلط لم تكن بناءً من حجر وطين، بل بيتًا روحيًا لكل من مرّ تحت قبابها أو وطئت قدماه عتباتها، لقد كانت وما تزال فكرة نضجت في وجدان مدينة آمنت بأن التربية والتعليم لا يُفصَلان عن الهوية والانتماء، فيها كانت الحصة الأولى درسًا في الانتماء، والدرس الأخير عهدًا بالوفاء، وبينهما تشكّلت شخصيات حملت عبءَ الوطن، وجعلت من المعرفة سبيلًا للبقاء وإن جارَ الزمن.

تلك المدرسة التي نشأت في سياق وطني مثقل بالأسئلة، وُلدت من إرادة الناس الذين لم يفرّقوا يومًا بين كسرة الخبز، وكتاب بين يدي ناشئ، فكانت بالنسبة لهم مرآةً للذات الجامعة، ومجالًا رحبًا لبناء الإنسان الحر، لا كما تريده السلطة أو الظروف، بل كما تقتضيه كرامة الحياة.

ومن هذا السياق تخرج محمد عبد الرحمن البشير، لا كتلميذ حمل شهاداته ورحل، بل كحامل لهوية تماهت مع روح المكان، لم يكن انتماؤه لمدرسة السلط انتماءَ ذِكرى، بل تواصلاً حيًّا مع مصدر النور الأول، مع ذلك الدرس الأول الذي أيقظ فيه شغف المعنى ومسؤولية الموقف ومتطلبات المواطنة الحقّة، لقد جعل من معرفته سلوكًا، ومن تجربته مرآةً صقيلةً للأجيال، مؤمنًا بأن الذات لا تُبنى بمعزل عن الجماعة، وأن الفرد لا يكتمل إلا حين يُسهم في رقيّ الكل.

مدرسته لم تُخرج منه بقدر ما هو خَرج منها حاملًا إياها في أعماقه، عاكسًا عمقها في مواقفه، وأصالتها في نظرته إلى الحياة.

وقد كتب مرّةً في إحدى صفحات يومياته:
"قيمة وجود الإنسان فيما يُحقِّقه في هذه الدنيا على مدى حياته من مُثلٍ وأهداف، ولقد بذلتُ جهدي بكلِّ إخلاصٍ وتفانٍ في تنشئة أبناءٍ صالحين خُلقًا وعملاً، وأدعو الله أن يُجازيني بهم خيرًا، بما يُقدِّمونه لأمَّتهم وأُسرهم وأبنائهم فيما بعد، بما يُرضي الله سبحانه وتعالى، كما أدعو الله أن يرحم والدي، فقد أخلص في تربيتي وضحَّى في سبيلي، وإني أُؤمن أنَّه لا يمكن أن يكون الرجلُ صالحًا لابنائه ان لم يكن صالحاً لابناء وطنه، فقد نذرتكم للهِ وللوطن، فكونوا خيرَ وحداتٍ في الدِّينِ والخُلُقِ والعِلم والعمل" انتهى الاقتباس

لقد تماهت التربية مع النضال، والعلم مع الموقف، ليصبح البشير واحدًا من أولئك القلائل الذين تتحوّل فيهم التجربة الشخصية إلى قيمة عامة.

في المدرسة تتجسّد فلسفة التكوين، لا بوصفها مكانًا للتلقين، بل مجالًا لتوليد الأسئلة، وتفكيك الجاهز من المفاهيم، والعودة إلى جوهر الإنسان. هناك، يتعانق الحلم مع الخيبة، والسؤال مع الإيمان، ليبدأ الفعل التربوي الحقيقي، لا بإنتاج العقول فقط، بل بتهذيب الأرواح؛ فمن لا يسمو فكره، تضلّ خطاه.


السلط بحمولتها التاريخية والاجتماعية، منحت لهذه المدرسة بعدها الأعمق؛ أن تكون بوتقة انصهرت فيها رغبات مجتمع بأسره في التحرر من الجهل، والارتقاء بالعلم، وأن تشكّل فضاءً ثقافيًا يحرس الذاكرة ويصوغ المستقبل.

وقد تجلّت أروع صور الوفاء في التبرعات التي قدّمها أهل السلط عبر العقود، مدركين بحسهم الفطري أن المدرسة ليست شأنًا حكوميًا فحسب، بل تعبيرٌ عن عمق العلاقة بين المواطن ومعنى الوطن، بين الأرض وثمارها، فصار العطاء للمدرسة تجديدًا للعهد مع الذات، ومع أحلامٍ لم تمت.

إن الاحتفاء بمئوية مدرسة السلط، ومئوية ميلاد الدكتور محمد البشير، ليس وقوفًا عند أطلال الماضي، بل استدعاءٌ لما ينبغي أن يكون عليه الحاضر، نحن لا نحتفي فقط بتاريخ مشرّف، بل نستحضر مسؤولية الاستمرار، فالمعرفة ليست أرشيفًا، بل مواقف، والتعليم ليس ميراثًا نرثه، بل رسالة نؤديها، وهنا، تلتقي فلسفة حياة محمد البشير بروح المدرسة، لتقول للأجيال القادمة، العلم ليس زينة، بل درعٌ في مواجهة عالم متغيّر، وأداة للتحرر من التبعية، وسُلّم نحو كرامة مستحقة.

ختامًا..
فلنقف اليوم لا لمدح الماضي فحسب، بل لنتعهد أمامه أن نبقى على دربه؛ أن نبني، ونعلم، ونصون روح المؤسسة التعليمية، لا كمعلمٍ ومتعلمٍ فقط، بل كفكرة متجددة، وحلمٍ يتوسّع، ووجدانٍ مقيم.
ولنتذكر أن في كل مقعد دراسي، وفي كل قلم يخطّ على ورقة، مشروع وطن، إن أُحسن إليه نهض، وإن أُهمل ذبل وتلاشى.
رحم الله الأوائل، وخلّد في الذاكرة من جعلوا من المدرسة وطنًا صغيرًا، ومن الكلمة نورًا، ومن التضحية دربًا للبقاء والخلود.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :