إذا ما تأملنا في ملامح المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط سنجد أنفسنا أمام رقعة شطرنج شديدة التعقيد يتداخل فيها السياسي بالأمني ويتشابك فيها الإقليمي بالدولي وتتوزع أدوار اللاعبين بين من يتحكم بالمشهد ومن يسعى إلى إثبات وجوده ومن يكتفي بالتأثير من خلف الستار دون أن يظهر علناً على سطح الرقعة
اللاعب الأساسي الذي يهيمن على مركز الرقعة ويعيد تشكيل التوازنات حوله هو إسرائيل التي لا تخوض المواجهات بشكل مباشر فقط بل تعمل على إعادة رسم حدود النفوذ من خلال تحالفاتها الإقليمية وتطبيعها مع عدد من الدول العربية بالإضافة إلى استخدامها لملفات أمنية حساسة كورقة ضغط وسيطرة على مسار الأحداث وتوظيفها لصالح استراتيجيتها القائمة على ضمان تفوقها الأمني والاستخباراتي .
على أطراف الرقعة تقف إيران بثقلها الأيديولوجي والعسكري والسياسي وقد نجحت في ترسيخ نفوذها داخل عدة دول عبر وكلاء محليين يحققون لها ما لا تستطيع فرضه بشكل مباشر فمن العراق إلى سوريا ولبنان وصولاً إلى اليمن تنسج طهران شبكة مصالحها العميقة مدفوعة بعقيدة الثورة وهاجس الدفاع عن نفسها من حصار دائم واستهداف متكرر وهي تسعى لإعادة تشكيل المجال الإقليمي بما يتواءم مع سرديتها عن الأمن القومي الإيراني الذي لا يتوقف عند حدودها الجغرافية ، ومن خلال توظيف الاقليم لصالحها وهاهي تنتقل الى مفاوضات مباشرة مع امريكا عندما بدأت تنحسر اذرعها ولكنها لا زالت مؤثرة من الباطن مع عملائها ولاعبيها خارج ارضها.
تركيا من جهة أخرى تسلك مساراً أكثر براغماتية فهي لا تنفك تتنقل بين التحالفات مستثمرة في ثغرات التوازن الإقليمي تارة في شمال سوريا عبر الحضور العسكري المباشر وتارة في ليبيا أو في علاقاتها المتقلبة مع إيران وإسرائيل ودول الخليج هي لاعب مرن يحرك قطعه بانتهازية سياسية تعكس توجهات الداخل التركي المتغيرة وتبحث دوماً عن دور قيادي في منظومة إقليمية ما تزال تتشكل.
أما الدول العربية فهي تمثل في جوهرها الرقعة ذاتها التي تدور عليها التحركات فتتفاوت أدوارها وتأثيراتها منها ما ترمي ثقلها التاريخي تسعى به لاستعادة دورها من خلال الوساطة والتوازن ولكنها منهكة داخلياً بأعباء اقتصادية ثقيلة، ودول خليجية من جانبها تتجه إلى سياسة أكثر هدوءاً مع تحولات في أولوياتها باتجاه التنمية والتوازن الإقليمي بعيداً عن المغامرات المباشرة ومنها من يقف كحلقة وصل مهم وخطير ومقيد بضرورات الاستقرار والموقع الجيوسياسي والتحدي الاقتصادي، ومنها من هو غارق في أزماته لكنه يحتضن أحد أبرز أدوات النفوذ الإيراني .
سوريا اصبحت ساحة مفتوحة لكل اللاعبين وقد أصبحت ملعباً للتنافس الروسي والإيراني والتركي والدولي فيما يظهر العراق كلاعب منخرط بالكامل ولكن بخيوط خارجية تحركه أكثر مما يحرك نفسه.
خارج الضوء توجد دول عربية تتحرك بهدوء وفعالية على جبهات اقتصادية ودبلوماسية متعددة واخرى بدورها تكتفي بدور الوسيط المحايد وتتمسك بسياسة النأي الذكي ومنها ما تندرج ضمن محور التحالف مع دول خليجية مؤثرة ولكنها تبقى محدودة التأثير الاستراتيجي.
وعلى الرقعة ذاتها تتحرك تشكيلات غير دولية لكنها بالغة التأثير وتنظيمات تقود المشهد الميداني في مواقع محددة فحماس في غزة والمقاومة في الضفة الغربية تفرض معادلات أمنية جديدة بقدرات متواضعة ولكنها تضع إسرائيل أمام تحديات يومية متكررة والحوثيون في اليمن باتوا رقماً صعباً في معادلة الخليج ويشكلون أداة ضغط إيرانية واضحة والحشد الشعبي في العراق يعكس عمق النفوذ الإيراني ولكنه أيضاً يتحول تدريجياً إلى كيان مستقل نسبياً بقوة السلاح أما قوات سوريا الديمقراطية فتمثل معضلة مزدوجة فهي حليف لأمريكا وعدو لتركيا وطرف في حسابات النظام السوري.
وفي قلب هذا المشهد لا يمكن إغفال الدور الأمريكي الذي يحسب حساب التوازنات السياسية والاقتصادية اكثر من ذي قبل إلا أنه ما زال مؤثراً قوياً في خلفية الرقعة ، تتحرك واشنطن كصانع إيقاع لا كلاعب مباشر وتعيد صياغة تحالفاتها بناء على مصالح متغيرة فهي تدير علاقتها مع إسرائيل بتوازن مع دعمها لبعض الأطراف الكردية وتغض الطرف عن بعض التحركات التركية العضو في حلف الناتو مع اوروبا التي تغدو تنتفض في وجه امريكا ، مقابل تعاون في ملفات أخرى وتواصل الضغط على إيران دون أن تنخرط في مواجهة مفتوحة معها كما تسعى لإعادة دمج بعض الدول العربية في تحالفات إقليمية جديدة تحت مسمى التطبيع أو الشراكة الاقتصادية والأمنية وفي المجمل فإن الولايات المتحدة تنسحب تكتيكياً من ميادين الصدام المباشر ولكنها تبقى ممسكة بخيوط اللعبة عبر أدواتها المنتشرة في أكثر من ساحة.
إن المشهد الإقليمي إذن ليس مجرد صراع نفوذ بين دول بل هو لوحة مركبة من تقاطعات المصالح والتحالفات والتناقضات وأي قراءة سطحية له لا تكشف حجم التعقيد الكامن فيه فكل طرف يملك أوراق قوة وأخرى ضعف يتبادلها بحسب الظرف واللحظة والمصالح .
التوقعات تشير إلى أن الرقعة ستبقى في حالة غليان متواصل ولن تستقر قريباً ، إذ أن التحولات في موازين القوى لا تنتج عن حروب شاملة بقدر ما تنجم عن تراكم أزمات وتغير الأولويات وتبدل التحالفات كما أن الحضور الدولي لم يعد مباشراً كما كان في السابق ، بل بات أكثر اعتماداً على الوكلاء المحليين وأدوات التأثير الناعمة والضغوط الاقتصادية.
في النهاية من يظن أن هذه الرقعة قابلة للتهدئة الكاملة يخطئ في فهم طبيعة التكوين الجيوسياسي للشرق الأوسط إنها رقعة شطرنج بلا نهاية واللعبة مستمرة بقواعد تتغير باستمرار فكل طرف يحاول أن يفرض رؤيته كواقع وكل حركة فيها تفتح الباب لحركة مضادة قد تعيد تشكيل المشهد من جديد.