الأرض ليست سلعة .. بل وطن
م. عامر البشير
14-04-2025 01:32 AM
*قراءة نقدية مستقلة لمشروع قانون مطروح للنقاش العام، تستند إلى القيم الدستورية في حماية الملكية والعدالة الاجتماعية مشروع قانون الأبنية والأراضي لسنة 2025.
في فصلٍ ملتبس من السردية السياسية الأردنية، تتقدّم الحكومة بمشروع قانون يبدو على سطحه إجراءً إداريًا—إطارًا فنيًا لتنظيم الفراغ، إلا انه في اللحظة التي تُقدِم فيها الحكومة على طرح مشروع القانون يُفترض به أن يُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والأرض، لا نكون إزاء تنظيمٍ عمراني فحسب، بل أمام لحظة فلسفية تُعيد تشكيل سؤال الانتماء:
هل الأرض مجرّد مساحة تُقاس بالمتر وتُسعَّر بالدينار؟ أم أنها امتدادٌ للذات، مرآةٌ للكرامة، ومخزن لذاكرة الأجداد؟.
بين المسطرة والذاكرة، يُعاد رسم الوطن.
المسطرة هنا ليست أداةً هندسية، بل رؤيةٌ سلطوية تُفرغ الأرض من معناها الوجودي وتختزلها في أرقامٍ وتقاريرٍ وتقديراتٍ نظرية.
أما الذاكرة، فتنادي من تحت الركام: الأرض ليست سلعة، بل حكايةٌ لا تُباع، وشهادةُ انتماءٍ لا تُستبدل بمطالبة مالية.
لكن القانون المطروح لا يهدف إلى تحقيق عدالة عمرانية أو شراكة وطنية، بل يبدو كبيان نوايا جِبائية، تُقايض فيه الدولة حقّ المواطن في السكن بولاءٍ ضريبي، وتحوّل فيه الملكية من ضمانة وجودية إلى عبء مالي.
هذا القانون، في جوهره، لا ينتمي إلى أي مدرسة حديثة في إدارة الدولة:
• ليس رأسماليًا، لأنه لا يعود على السوق بخدمات، بل بضرائب.
• وليس اشتراكيًا، لأنه لا يوزّع العبء بعدالة، ولا يعترف بالسكن كحق اجتماعي.
• بل هو أقرب إلى صورة الدولة الجابية في ثوبٍ عثماني، ترتدي عمامة السلطان، حيث تستعيد الدولة دور "المالك الأعلى"، والمواطن "منتفع مشروط"، يدفع مقابل الصمت.
وبذلك تحوّلت الدولة إلى جابي ضرائب، حيث الصمتُ إدانة، والولاءُ دَين، والذاكرةُ فاتورة.
الأردن ليست دولةً سوقية—فالسوق على الأقل يقدّم مقابلًا للقيمة.
وليست دولةً اجتماعية—فالعدالة تتطلّب توزيعًا منصفًا للأعباء.
لكن، تحت لغته المقيسة بعناية، تتوارى تحوّلات أعمق: إعادة تعريف للفلسفة التي تحكم العلاقة بين المواطن والأرض، بين الجغرافيا والهوية، بين الحق والجباية.
ليس هذا مجرّد قانون للأبنية والأراضي، بل مرآة لعقدٍ اجتماعي يُعاد تشكيله على أسسٍ هشة، تخلط بين التنظيم والتنصّل، وبين السيادة والتحصيل المالي.
بين المسطرة والذاكرة، يُعاد رسم الوطن.
فالمسطرة لم تعد أداةً محايدة لقياس الارتدادات والمحاور، بل تحوّلت إلى استعارة لسلطةٍ ترى في الأرض أصلًا يُقيَّم، لا قصةً تُروى.
إنها ذهنية تُقوِّم الأرض بالأرقام لا بالانتماء، تُفرغها من معناها، وتُفرغ المواطن من كرامته، فتختزله في خانةٍ ضمن سجل التقديرات الضريبية، لا كشريكٍ في تشكيل المكان الذي يسكنه ونسكنه
.
الذاكرة تصرخ من تحت الركام:
ليست الأرض مجرّد مربعٍ مرسوم على مخطط طابو، بل هي امتدادٌ للروح، وخزانٌ لذاكرة الأجداد، وملاذٌ للمهمّشين، وآخر أعمدة الكرامة للطبقة الوسطى المُنهكة، الأرض ليست سلعة قابلة للتداول؛ بل حقٌ تاريخي ووجودي—حق لا يُنتزع بالضريبة، ولا يُستبدل بالإعفاء.
لكن هذا المشروع لا يُقدّم رؤيةً لعمرانٍ عادل، بل يبدو كبيانٍ مقنّع لفرصةٍ جبائية—يُعيد تعريف الدولة كمُحصِّل لا كضامن؛ ويجعل من المسكن ضمانًا لا حقًا.
المواطن يتحوّل إلى لاجئ داخل أرضه، او مستأجر في بيت يملكه، يُعاقَب لا على الاستغلال، بل على الملكية، ويُدان لا على سوء الاستخدام، بل على عدم البناء.
من التشخيص إلى التفكيك: جغرافيا الخلل
فلسفة القانون: الأرض كأداة مالية
لا يُذكر في القانون أن الأرض مساحةٌ للسكن أو الزراعة أو التواجد المجتمعي.
الأرض تُختزل في كونها أصلًا ماليًا يُقدّر، لا مكانًا يُسكن.
والمواطن يُستدعى لا لينتمي، بل ليُثبت الجدوى.
انسحاب من دور توفير السكن.
أين استراتيجيات الإسكان العام؟ أين دعم الضعفاء والعاجزين؟
بدلًا من حمايتهم، يُجرّم القانون وجودهم. لا يُعاقب الاحتكار، بل يُعاقب العجز.
عدالة مقلوبة
أن تُفرض نسبة ضريبية أعلى على أصحاب الأملاك الصغيرة (4%) مقارنة بالكبيرة (3%)، فهذه قلبٌ للمعايير الأخلاقية والمفاهيم الدستورية وحين يتم ذلك بناءً على تقديرات إدارية غير منظمة، تصبح الضريبة أقرب إلى الابتزاز، حيث تحلّ الشبهة محل العدالة، والعشوائية محل الإنصاف.
الطبقة الوسطى بين المطرقة والسندان
الطبقة الوسطى، عماد الوطن، تُترَك مكشوفة.
شقّة متواضعة موروثة عن أب، أو بيت تم شراؤه بتضحيات، يصبح عبئًا ماليًا، وسيفًا مُسلَّطًا بالمصادرة أو الغرامة.
تشريع في الظل
لا دراسة أثر اقتصادي أو اجتماعي، لا بيانات علنية. لا توقّعات مستقبلية.
نصوصٌ صامتة تُرمى في فراغٍ تشريعي—وكأن سنّ القوانين طقسٌ فني، لا عقدٌ مدني.
وكأن الوطن مجرّد مخطط، لا مجتمعٌ نابض بالحياة.
فجوة عن الأعراف العالمية
• في سنغافورة، تقترن الضريبة بعدالة إسكانية.
• في فرنسا، ترتكز على الحماية الاجتماعية.
• في أميركا، تُترجم الضريبة إلى خدمات عامة.
أما هنا، فالمواطن يدفع… دون صوت، دون عائد، دون أفق حضري.
من الاحتجاج إلى الاقتراح: نحو قانونٍ عادل
• تثبيت الملكية كحقٍ دستوري، لا امتيازٍ مؤقت.
• اعتماد ضريبة تصاعدية ترتبط بالعائد والقدرة، لا بالتقدير المجرّد.
• منح إعفاءات إنسانية للضعفاء والمسنين.
• إنشاء لجان مستقلة للطعن في تقديرات العقارات ومراجعتها.
• ربط الجباية بالخدمة—فلا عدالة بلا مقابل.
• إلزام الحكومة بنشر دراسات الأثر الاقتصادي وبيانات شفافة.
• إطلاق خطة وطنية للإسكان تُوازن بين التنمية والكرامة.
• إنشاء نظام استئناف ميسّر لمنع التقديرات الجائرة.
تعديلات مقترحة على المادة (12) من مشروع القانون
• إلغاء الضريبة الثابتة واعتماد نظام شرائح يُراعي الدخل والاستخدام.
• إعفاء العقارات غير المستغلة أو الموروثة، أو السماح بتأجيل الدفع.
• إخضاع التقديرات الإدارية للمراجعة القضائية الفورية.
• فرض سقف للعبء الضريبي لحماية صغار المالكين.
• إطلاق حوار وطني شامل يضم البلديات والمواطنين.
الخاتمة: حين تفقد القوانين روحها، تفقد الأوطان توازنها
القانون ليس مجرّد بنود… بل عمارةٌ أخلاقية للوجود المشترك.
وحين تتحوّل العلاقة بين المواطن والأرض إلى عقد إذعان…
وحين تصبح الملكية تهمة، والمسكن تهديدًا بدل أن يكون ملاذًا…
فنحن لا نُنظّم العمران، بل نُقوّض الروح الاجتماعية للدولة.
السؤال ليس: كم سندفع؟
بل: كم سنخسر من انتمائنا، وكرامتنا، وسرديتنا المشتركة؟
هل ستُعمّق الدولة الفجوة بين الناس والمكان؟
أم ستزرع الثقة في التربة التي تحملنا؟
هل ستحرس الأرض كذاكرة ومعنى؟
أم ستقايضها برقمٍ في حسابٍ جديد؟.
هذه هي اللحظة الفاصلة…
ليست اختبارًا للقانون، بل للرؤية وسعة الأفق.