الحاضر الغائب .. أزمة وجود في زمن اللامبالاة
د. ثابت النابلسي
18-04-2025 11:47 AM
لكلٍّ منّا ذاكرة معلّقة بلحظة بسيطة، لكنها محفورة بعمق ، لحظة نداء المعلم أو الدكتور في الصف، حين يلفظ الاسم بصوت جهوري، وينتظر من صاحبه الرد بـ”حاضر”.
كم من مرّة تضامننا كطلاب وردّ أحدنا بدل زميله الغائب، في محاولة بريئة للتغطية على غيابه! وكم من مرة وقعنا في الفخ حين طلب المدرّس من “الحاضر بالنيابة” أن يقف!
لكن… ماذا لو قلبنا المشهد؟ ماذا لو لم يكن الغائب فردًا واحدًا، بل أصبح الغياب جماعيًا؟ وماذا لو لم يكن الغياب عن مكان، بل عن فكر وروح ومسؤولية؟
نعيش اليوم واقعًا مؤلمًا من “الغياب المقنّع”.
فالحضور شكلي، والغياب جوهري والأجساد في أماكنها، لكن العقول شاردة، والضمائر نائمة، والنفوس منهكة. حضر الموظف إلى عمله وسجّل بصمة الحضور، لكنه غائب بعقله وروحه. عاد الأب إلى منزله، لكنه مُثقلٌ بهمومه، حاضرٌ في الجسد، غائبٌ عن أسرته.
حلّ المراقب مكان المعلّم، والمدير مكان القائد، والمُشرف مكان المُلهم. تغيّب الفهم، وحضر الحفظ. تغيّب القائد صاحب الرؤية، وحضر من يجيد إدارة الجداول لا العقول. لقد تحوّلنا إلى مجتمع يُتقن تسجيل الحضور، لكنه لا يعرف كيف يحضر حقًا.
غاب التضامن، ذاك الذي كان يدفع زميلًا للرد مكانك بصدق ومحبة ، نعم حلّ مكانه الانسحاب، الفردية، واللهاث وراء مصلحة آنية. بات “الحضور” اليوم مرهونًا بالمنفعة، لا بالقيم. فاختفى الفرح، وتوارى الأمل، وحلّ بدلًا منهما قلقٌ عام، وسكونٌ داخلي لا يشبه الراحة.
وهنا لا بد أن نطرح السؤال الصعب: أين ذهب الجميع؟
أين ذهبت المعاني التي كانت تحفّز الإنسان ليقول “حاضر” عندما تناديه الحياة؟
لماذا استسلمنا للغياب، وقبلنا أن نكون شهودًا على زمن لا نشارك في صنعه؟
أيها الغياب، لقد حضرنا… لكننا لم نجدكم.
ويا من لا يزال يؤمن بالحضور الحقيقي، إنّ الحياة بانتظار من ينهض، من يستعيد دوره، من يجيب بثقة: “نعم، أنا حاضر”.
وفي النهاية، الغياب قدر الضعفاء، أما الحضور فهو اختيار الأقوياء.
ومن واقع تجربتي الشخصية، وبعد ربع قرن من الحضور رغم تغيّب الكثير، تعلّمت درسًا ثمينًا ، أنني قادر على النهوض كلما تعثّرت، وقادر على الردّ بثقة كلما ناداني الواجب.
“أنا هنا… أنا حاضر… أنا موجود”.
فالذين يؤمنون برسالتهم لا ينتظرون أن يكتمل الصف من حولهم، يكفي أن يقفوا وحدهم ليعلنوا ان الحياة لا تنتظر الغائبين.
دمتم حاضرين.