عمّون … حين تُهذّب الكلمة… وتتحرر الذات
م. عامر البشير
23-04-2025 11:30 PM
في حياة كل كاتب لحظة تحوّل، ومكان استبصار، ومنبر يُعيد إليه إيمانه بالكلمة بعد طول اغتراب، هكذا كانت لنا عمّون، هي تلك اللحظة، وذلك المكان، وذاك المنبر، لم تكن مجرّد موقعٍ ينشر، بل مرآة تُصقل، ومحرابًا يُطهّر، ومسرحًا يوقظ فينا ذواتًا كدنا ننساها، ومخزونًا من الوجدان ظلّ قابضًا على جمر المعنى، حتى جاء من يفسح له مقامًا ويعطيه مجالاً للبوح.
شكرًا لعمّون … لأنها فجّرت فينا طاقات الكتابة التي كانت حبيسة جدران النّفس العميقة، تراكمت بين تجاعيد التجربة، وسكنت زوايا الصمت، تنتظر من يُصغي، لا من يستهلك، في زمنٍ تحوّل فيه التعبير إلى أداء، والرأي إلى سلعة، والكاتب إلى مؤثّر، أعادت عمّون تعريف الفعل الكتابي، لا كترفٍ نرجسي، بل كواجب وجداني، وكجسرٍ من الذات نحو الجماعة، ومن الإغتراب الى المشاركة.
في عمّون، لم نكتب لنُعرّف عن أنفسنا، بل لنُعيد تعريف أنفسنا، فالكلمة فيها ليست سطرًا، بل سيرة ونبضاً، والنص ليس عرضًا، بل عهدًا وسِفراً، والكاتب ليس شاهداً فقط، بل مشاركٌ في صناعة الضمير الجمعي، بما يمتلك من صدق، وما يحمل من شغف، وما تبقّى من رواسب الزمن الجميل وهمّ المستقبل الدفين.
لقد هذّبت فينا عمّون مخرجات التجربة والمعرفة، لا على طريقة الخُطب الطنّانة، بل عبر فِعلٍ ناعم، كالماء في جذور الشجر، يُنضج فينا الثمار على مهل، ويصقل الرؤية بالحوار، ويزرع فينا التواضع حين نظنّ أننا وصلنا، فتعلّمنا أن لا كتابة دون إنصات، ولا رأي دون وعي، ولا طرح دون احترام لمساحة الآخرين.
في عمّون، أدركنا أن الإعلام ليس صوتًا أعلى من الآخر، بل صوتٌ لصمتٍ طال امده، وأن المعلومة لا تكفي إن لم تكن مؤنسنة ومستنيرة بالفهم، مُشبعة بروح، محمولة على نبض، مغسولة بماء القلب، هناك، بين كلمة ومقال، بين افتتاحية ومداخلة، وُلد فينا كاتبٌ جديد، كاتبٌ لا يُرائي، ولا يُجامِل، ولا يكتب بحبر الخوف، بل بحبر الحقيقة.
هي مدرسة لا تعلّم، بل تُلهم، هي مختبر لا يُفرز النتائج، بل يُختمر فيه المعنى، في عالمٍ تتشابه فيه المنصّات، وتزدحم فيه الشاشات، حافظت عمّون على نكهتها، على هويتها…ليست نسخةً من صحيفة، بل مسارٌ وجدانيّ، يحمل من التراب دفئه، ومن الناس صدقه، ومن الوطن رسالته.
هي منبر لا يطلب الولاء، بل يُكرّم الانتماء،
فشكرًا لعمّون… لأنها لم تُعلّمنا كيف نكتب فقط، بل كيف نحترم ما نكتب.
وشكرًا لأنها لم تكن مضافة للكلام، بل ساحةً للتأمل، ومنصةً للوجدان، ومحرابًا للبوح الشريف النظيف.
شكرًا لأنها استنهضت فينا طاقات خامدة، وحرّرت أقلامًا كانت مأخوذة بخوف الرقابة انبتتنا من نبض الأرض، لا من هوى الجماعات وفيها اصبح الكاتب شاهدًا على عصره، لا شاهد مياومة، وتُقلب المعادلة، فلا يتكلم القلم بلسان الممول، بل يتكلم القلب بلسان الحقيقة، عمّون لم تكن فقط منبرًا… بل ضميرًا جمعيًّا، يلتقط أنفاس الناس، ويعيدها إليهم مكتوبةً بنبض الحقيقة.
فكيف لا نشكر سمير الحياري، وقد أسّس هذا الكيان بشغف الصانع، وبصيرة الرائي، لا بمقايضة السوق، ولا بمهادنة السلطان، صنع من عمّون سفينةً تشقّ عباب الإعلام، لا تخشى الريح، ولا تنكسر عند الموج، لأنها بُنيت على قناعة، وجُبِلت بتراب هذا الوطن.
عمّون هي التجسيد الحيّ لمقولة: "في البدء كانت الكلمة"، لكنها ليست أيّ كلمة، بل الكلمة التي تحمي، وتواسي، وتفضح، وتفتح الأبواب لمن أغلقهم الواقع، وأرهقهم التجاهل، إنها المعنى حين يُنسى، والصوت حين يُقصى، والظل حين تُحرقنا شمس الاصطفاف.
هي وطنٌ صغير في فضاءٍ شاسع… لكنها الوطن الذي لا نخونه، والصوت الذي لا ننساه، وهي بحقّ صوت الاغلبية الصامته مع سبق الاصرار والترصّد.
أشكر الله مرتين، مرّة لأن وطني هو الأردن، ومرّة اخرى لأنني صديق عمّون.
عمّون… حيث تُكتب الكلمة لتبقى، وحين يسألنا الغد عن الكلمة، سنشير إليها… كانت هنا، في عمّون.
فشكرًا والف شكر، لأنها لم تكتفِ بإشعال الشعلة، بل تركتها فينا موقدة… تسير معنا حيث نكتب، وحيث نحلم، فهي ليست مجرد رفيقة درب، بل ظلّ الحقيقة، وصوت الرجاء.