من الجدار الحديدي إلى الفوضى العالمية
م. عمر الشرمان
24-04-2025 02:23 PM
* قراءة في سلوك القوة الإسرائيلية وسط انهيار النظام الدولي
يشهد النظام الدولي اليوم حالة من السيولة والتحول غير المسبوقين، تتآكل فيها الثوابت القديمة وتتشكل خرائط جديدة لا تزال في طور المخاض. فبعد عقود من الهيمنة الأمريكية المنفردة التي أعقبت الحرب الباردة، بدأ يتضح أن مرحلة "القطب الواحد" قد أوشكت على نهايتها، لتحل محلها مرحلة انتقالية يتسم طابعها الأساسي بعدم اليقين.
لقد أصبح العالم متعدّد الأقطاب من حيث الشكل، لكنه غير متوازن من حيث المضمون. وبينما تراجع النفوذ الأمريكي المباشر، لم ينبثق بديل مؤسسي أو توافقي يحكم العلاقات الدولية، بل ظهر فراغ استراتيجي تتسابق على ملئه قوى دولية وإقليمية كل وفق أدواته ومصالحه. هذه المرحلة لا تعني فقط تغيراً في موازين القوى، بل تحوّلاً في طبيعة القوة نفسها، من السيطرة العسكرية والهيمنة الصلبة، إلى النفوذ الاقتصادي، وشبكات المصالح، والسياسات غير التقليدية.
في قلب هذا التحول تقف الولايات المتحدة، التي رغم احتفاظها بالقوة الأكبر من حيث الاقتصاد والتكنولوجيا والعسكر، باتت أكثر ميلاً لإدارة النفوذ لا فرضه، وأكثر اهتماماً بالتوازنات من الانخراط المباشر في الحروب. وهذا التغيير في السلوك لم يأتِ فقط من إرهاق الحروب الطويلة، بل أيضاً من إدراك استراتيجي أن العالم تغير، وأن محاولات إعادة فرض النظام القديم باتت غير مجدية ومكلفة.
من جهة أخرى، تبرز الصين كلاعب صاعد لا يطرح نفسه بديلاً عن أمريكا بشكل مباشر، بل يعمل على إعادة تشكيل النظام العالمي من الداخل، عبر أدوات التأثير الاقتصادي والبنى التحتية والربط التجاري العابر للقارات. مشروع "الحزام والطريق" ليس مجرد خطة استثمارية، بل منظومة مصالح تؤسس لعالم متعدد الأقطاب قائم على الترابط الاقتصادي، والولاءات اللينة، والاعتماد المتبادل. بكين لا تسعى إلى المواجهة، لكنها تتقدم بثبات، وتخلق شبكات نفوذ تمتد من جنوب شرق آسيا، إلى الخليج، إلى إفريقيا، فجنوب أوروبا.
وفي المقابل، نجد روسيا تسلك نهجًا مختلفًا قائمًا على إعادة تموضع قسري عبر الحضور العسكري المباشر، وتوظيف الأزمات، واستثمار الفوضى. تدخلها في سوريا، ثم غزوها لأوكرانيا، ثم توسيع حضورها في إفريقيا، كلها محاولات لإثبات أنها لا تزال قوة لا يمكن تجاوزها في النظام الدولي، حتى وإن كان ذلك عبر أسلوب "كسر الطاولة" وليس إعادة ترتيبها. روسيا تدرك حدودها الاقتصادية والديمغرافية، لكنها توظف ما تملك من أدوات –الطاقة، السلاح، الفيتو، والصداقات مع الأنظمة المتوترة مع الغرب– لتوسيع هامشها الاستراتيجي.
في قلب هذا الحراك، يبدو الشرق الأوسط كمنطقة اختبار للفوضى الدولية. فمع تراجع الانخراط الأمريكي، وغياب مشروع عربي موحد، باتت الساحة مفتوحة أمام صراع إرادات وتوازنات هشّة: إيران تملأ الفراغ في المشرق، وتركيا تتوسع في الشمال العربي، وإسرائيل تعيد هندسة البيئة الاستراتيجية عبر العنف، وروسيا تتموضع عسكرياً ودبلوماسياً، والصين تكتفي بالتغلغل الاقتصادي الهادئ. أما الشعوب، فتدفع ثمن كل هذا في غزة وسوريا واليمن والسودان، دون أن يكون هناك أفق لحل شامل، أو مشروع استقرار طويل المدى.
في هذا السياق المضطرب، تتحرك إسرائيل وسط الفوضى الدولية بسلوك لا يخرج عن عقيدة قديمة تجدد نفسها بمرونة مدهشة: عقيدة "الجدار الحديدي"، التي طرحها زئيف جابوتنسكي في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي تقوم على فرض إرادة الاحتلال من خلال الردع العسكري القاسي، وليس التسويات أو التفاهمات. لم تكن هذه الاستراتيجية مجرد طرح فكري، بل أصبحت العمود الفقري لسلوك إسرائيل السياسي والعسكري، وهي تتجلى اليوم بوضوح في عدوانها المستمر على غزة، وسياسات الحصار، والتهجير، والتوسع الاستيطاني.
في عالم ما بعد القطبية الأحادية، تتحول إسرائيل إلى لاعب فوق القانون، يستفيد من تراجع الضوابط الأخلاقية والمؤسسية، ومن انشغال القوى الكبرى بإعادة ترتيب أولوياتها، ومن غياب المشروع العربي. فهي لم تعد تكتفي بدور الشريك للغرب، بل باتت تتصرف كقوة مستقلة تفرض واقعاً إقليمياً بقوة السلاح والدعم السياسي الأمريكي.
لكن الاستراتيجية الإسرائيلية لا تمر دون تكلفة. فالفجوة بين "الشرعية الدولية" و"القوة المادية" تتسع، ومفاهيم الردع تتحول إلى استنزاف، والنظام الدولي نفسه يواجه أزمة تعريف ومعيار. لم تعد مفاهيم الرد على الاحتلال أو الهيمنة قائمة فقط على الشعارات أو السلاح، بل أصبحت مرتبطة بفهم أعمق لطبيعة التحول الدولي. إن القراءة الواعية لهذا الواقع الجديد تتطلب من الفاعلين، خصوصاً في المنطقة العربية، تطوير أدوات تحليلهم وتفكيرهم الاستراتيجي بعيداً عن التبسيط أو الرومانسية الثورية.
إن جوهر المرحلة الراهنة لا يتمثل فقط في تحدي الاحتلال أو مقاومته، بل في فهم بنية النظام الدولي الجديد، وتحديد مكامن التأثير الممكنة داخله. لقد أصبح من الضروري أن نتجاوز النظرة التقليدية للمقاومة، ونتبنى فهماً استراتيجياً معمقاً للواقع المتغير، بحيث ننتقل من ردّات الفعل إلى الفعل، ومن الرفض الانفعالي إلى بناء بدائل سياسية واقتصادية وإعلامية تتناسب مع لحظة التشكل العالمي.
كل ما سبق يضعنا أمام مفترق طرق: فإما أن يستمر العالم في مسار التفكك، وتحكمه منطق الفوضى، وأولويات المصالح الفردية، أو يتم التوصل إلى صيغة جديدة لنظام دولي أكثر توازناً، تشارك فيه قوى الجنوب العالمية، ويُعاد فيه الاعتبار للشرعية، والعدالة، وتوازن المصالح.
وفي الختام، فإن المرحلة المقبلة لن تُصنع في غرف التفاوض المغلقة، ولا في مراكز القوة التقليدية، بل في قدرة الشعوب والنخب على إدراك عمق التحولات، وتجاوز الحتميات، وبناء أدوات فهم وتحليل ومعرفة، تحفظ لها مكاناً في معادلة دولية تتغير ملامحها كل يوم.
إما أن نصوغ شراكات جديدة تقوم على التوازن والمصالح المتبادلة، وإما أن نُترك كفرائس على موائد الكبار، تُعاد صياغتنا وفقاً لأجنداتهم، لا وفقاً لأولوياتنا.