حين يصبح التنظيم فوق الوطن: خيانات مموّهة في ثوب المقاومة
أ.د. أحمد منصور الخصاونة
24-04-2025 05:47 PM
لم أنتمِ يومًا إلى حزب، ولا بايعت تنظيمًا، لا سرًّا ولا علنًا، ولم أوزّع ولائي بين وطن وتنظيم. كان الوطن، ولا يزال، هو حزبي الوحيد، فالأردن ليس محطة في مسيرة، بل هو البداية والنهاية. رايته لا تعلوها راية، ولندرك بأن الانتماء حين لا يكون خالصًا، يتحوّل إلى خيانة صامتة. فالأردن ليس دولة طارئة ولا عابرة، ولا خاضعة لتقلّبات الأيديولوجيا، بل هو مشروع تاريخي متجذر، له شرعيته وقيمته. وأي مساس بأمنه واستقراره ليس وجهة نظر، بل طعنة في صميم الدولة والمجتمع.
ما حدث مؤخرًا من ضبط "الخلية الضالة" ليس حادثًا أمنيًا عابرًا، بل صفعة في وجه كل من ظنّ أن الدولة نائمة، أو أن في هذا البلد ثغرات يمكن النفاذ منها لتحقيق أجندات مظلمة. ولا يمكن لعاقل أن يتصور أن مدننا قد تتحول إلى مستودعات موت ، من يخطط لصناعة الصواريخ والطائرات المسيّرة في قلب وطن آمن، وفي إقليم ملتهب، لا يرتكب مجرد مخالفة أمنية، بل يرتكب خيانة مكتملة الأركان. لا تبررها الشعارات، ولا تغفرها رايات مستعارة. أولئك لا يؤمنون بالدولة، ولا يرون في الأردن وطنًا، بل محطة عابرة أو ساحة تجارب. لا مكان لهم بيننا، ولا يمكن احتسابهم على المعارضة أو الفعل السياسي. هم خصوم للوطن، مهما تنكروا بلبوس المقاومة أو تظاهروا بالغيرة. والأخطر من ذلك، من يصرّ على تسييس الجريمة، ويدفع بها نحو مساحات رمادية او سيقات ضبابية، أو يربطها بمظلومية مصطنعة. نقولها بوضوح: من يحمل ذرة انتماء للأردن، لا يضع أمنه في كفّة وتنظيمه في أخرى. ثم يظهر من يحاول جرّ الحدث إلى مستنقع الهويات الفرعية: أردني وفلسطيني، شرقي وغربي، وكأن القضية ليست خيانة للوطن، بل صراع أصول ومنابت. هذا الطرح ليس فقط مجانبًا للحقيقة، بل يضرب عُمق الوحدة الوطنية التي صاغها الأردنيون بدمائهم وتضحياتهم. فالانتماء للأردن لا يُقاس بالأصل، بل بالفعل، والمواطنة ليست نسبًا، بل عقد التزام واحترام تحت مظلة القانون والدستور. من جعل من القضية ذريعة، أضاع البوصلة، وبدّل الولاء، وخال أن الأردن صدفة جغرافية، لا وطنًا يُبنى ويُفدى. لقد خلطوا بين المقاومة والمقامرة، فبدل أن يضعوا البندقية في حضن القدس، وضعوها في خاصرة عمّان.
لطالما شكّلت جمعية او جماعة الإخوان المسلمين نموذجًا صارخًا للتداخل المربك بين الولاء للتنظيم والانتماء للوطن. جماعة وُلدت خارج حدود الدولة، لكنها حظيت بفرص غير مسبوقة داخلها، من البرلمان إلى النقابات وساحات المجتمع المدني. لكنها – ويا للأسف – لم توظف هذا الحضور لتعزيز البناء الوطني، بل لتكريس خطاب المواجهة والمناكفة. تغيب الراية الأردنية عن فعالياتهم، وتُستبدل بشعارات لا تمتّ لهوية الوطن بصلة، بل يُرفض فيها أحيانًا مظاهر السيادة الوطنية حتى العلم الأردني. الأردن بالنسبة لبعضهم، وسيلة لا غاية، وجودهم فيه مرحلة تكتيكية على طريق أهداف خارجية لا تعبّر عن الإرادة الوطنية. وفي السنوات الأخيرة، انحدرت الجماعة – لاسيّما بصيغتها المتشددة – إلى هاوية الإقصاء والتكفير السياسي، فأطبقت على كل نَفَسٍ معتدل في جنباتها، حتى أولئك الذين وُصفوا يومًا بـ"الحمائم"، الذين حاولوا أن يرمموا ما تكسّر من جسور، ويُعيدوا العقل إلى الواجهة، والحوار إلى المعادلة. لكنّهم ما لبثوا أن طُردوا من جنّة التنظيم، وشيطنتهم ماكينة الداخل، لأنهم تجرأوا على الحلم بوطنٍ يتسع للجميع، لا على مقاس الجماعة. بعضهم، وقد أُوصدت في وجهه الأبواب، لم يعُد يرى ذاته جزءًا من الدولة، بل امتدادًا لحركات عابرة للحدود، هجينة الانتماء، تنطق بلسانٍ لا يُشبه لساننا، وتتحرك على إيقاع أجندات دخيلة على روح الدولة والمواطنة الأردنية وثوابتها. صار الولاء للأردن جريمة تُرتكب، والانتماء للمؤسسة العسكرية يُصنّف تسحيجًا، وكأن الانتماء قد أضحى خيانة، والوطنية تُهمة، ورفع العلم الاردني بالاردن خضوع.
وتلك هي المأساة حين يضيق الفكر، وتُصاب الأيديولوجيا بالعمى العقائدي، فترفع راية التنظيم فوق راية الوطن، وتقدّم الولاء للفكرة على حساب الانتماء للأرض. لقد كانت الفرصة مهيأة، والمناخ السياسي منفتحًا، وصدور القيادة الهاشمية رحبة، تستوعب الخلاف وتستدعي المراجعة، لكنهم آثروا أن يضربوا صفحًا عن لحظة التصحيح، ويتمترسوا خلف خطاب الإقصاء والتشكيك، متناسين أن الوطن ليس تنظيماً، وأن الدولة لا تُبنى على النفي، بل على التعدد والتكامل.
إننا نؤمن بمجتمع تُحكمه القيم، وتسوده سيادة القانون، ويحتضن التعدد لا ينبذه. وهذه ليست أمنيات، بل ثوابت لا تقبل المقايضة، ومنطلقات لا تقبل التجميل الخطابي، وهي المعيار الصارم لمن أراد الشرعية السياسية والفاعلية المجتمعية. وانطلاقًا من تجربة ثرية عايشتها وخبرات متراكمة اكتسبتها خلال مسيرتي الإدارية والأكاديمية في الجامعة الهاشمية، حيث توليت مهام العمادة والإدارة لما يزيد على خمسة عشر عامًا ، ثم رئاستي لإحدى أعرق واقدم الجامعات الخاصة، حيث تواجد أفراد الجماعة في مختلف المؤسسات والمواقع، سعيت – إيمانًا بدوري الوطني – إلى احتضانهم، ممّن زاملتهم وعرفت فيهم قابلية التحول. لم أضيق صدرًا باختلافهم، بل فتحت أمامهم نوافذ الحوار، ومنحتهم فضاءً آمنًا للتعبير، ونجحت – في أكثر من حالة – بتحويل خطابهم من جمودٍ متكلّس إلى انفتاحٍ متزن، ومن شعارات خشبية إلى مفردات وطنية وخطاب متسامح راغب في الاشتراك في نهضة الوطن. حتى أنني كلفت بعضهم بعرافة احتفالات وطنية، للتغني بالوطن، لكنّ من استجابوا كانوا أولئك الذين ما لبثوا أن لفظتهم الجماعة، لا لذنبٍ ارتكبوه، بل لأنهم أحبوا الوطن بلا شروط، وأرادوا أن يكون الانتماء للأردن أوسع من التنظيم، وأصدق من الشعارات، لأن صدور الجماعة ضاقت بهم، وبافكارهم الوطنية.
وهنا تتبدّى الأزمة بحقيقتها الأوسع: فالمعضلة لا تكمُن فقط في سلوك جماعةٍ بعينها، بل في الفراغ الذي خلّفته الحياة الحزبية الواهنة، حين غابت البدائل الوطنية القادرة على جذب العقول والنفوس إلى مشروع وطني جامع. فحين تُحجَب المنصات الجادة، وتُهمَّش القوى الحيّة، تجدُ التنظيمات العابرة للحدود في ذلك تربة خصبة، تعبث فيها بأفكار الشباب، وتُغريهم بشعارات لم تختبرها المِحنة، ولم تصهرها نار الولاء. ومن أراد تشخيص الأزمة بدقة، فليعلم أنها ليست حكرًا على جماعةٍ بعينها، بل هي أزمة غياب البديل الحزبي الحقيقي. إذ لا تزال الحياة الحزبية في الأردن هشةً ومتهالكة، مفتقرةً للرؤية، غائبةً عن الشارع، بعيدةً عن هموم الناس. أحزابٌ بالعشرات، لكنّها بلا أثر. بلا خطابٍ يلامس الجراح، أو مشروعٍ يقنع العقل، أو امتدادٍ يُشعر الناس بأنهم جزءٌ من الحل لا موضوعٌ للمزايدة. نحن بأمسّ الحاجة إلى عقدٍ سياسي جديد، تُبنى فيه الثقة بين المواطن والحزب، لا على وعودٍ منزوعة المعنى، بل على برامج حقيقية ومواقف مسؤولة. نحتاج إلى بناء دولةٍ تُكرّس هيبتها بالقانون لا بالمهادنة، وإلى معارضةٍ وطنية لا نقمة شعبوية، قادرة على النقد دون تشويه، وعلى المطالبة دون تشظية. من أراد أن يعارض، فميدانه الكلمة، وسلاحه المنطق، ومن أراد الإصلاح، فطريقه القانون والمؤسسات؛ أمّا من أراد اللعب بالنار، فليعلم أنّ الوطن لا يحترق، بل من يحاول إحراقه هو من يُحترق.
ناقشتُ بعض أعضاء الأحزاب الناشئة، وفوجئت أن دافع بعضهم ومن القيادات، كان البحث عن منصب لا عن فكرة. وبعضهم لم يُخفِ ندمه، وبدأ يفتّش عن حزب يضمن له "فرصة أفضل"! أي وهنٍ هذا؟ هذه الذهنية تحوّل العمل الحزبي إلى سُلّم فردي، لا منصة وطنية جامعة. الأردن أكبر من الأحزاب، وأبقى من التنظيمات. ومن أراد الاصطفاف تحته، فليجعل من رايته راية، ومن أمنه أولوية، ومن تاريخه وسامًا لا خنجرًا. نريد حزبًا لا يختبئ خلف الدين أو النسب، ولا يلهث خلف الخارج أو الامتيازات. حزبًا يواجه العاصفة، ويحاكم الدولة بمنطق الإصلاح، لا بمنطق التشهير.
واخيرا، سلامٌ على الجيش العربي المصطفوي، درع الوطن وسيفه. وسلامٌ على المخابرات العامة، والاجهزة الامنية العيون الساهرة التي لا تنام. وسلامٌ على كل سواعد البناء التي ترفع بنيان الوطن حجرًا فوق حجر. سلامي على جلالة الملك عبدالله الثاني، رمز الحكمة والثبات، وسلامي على سمو ولي عهده الحسين بن عبدالله، أمل الشباب ومشعل المستقبل. وسلامٌ على الأردنيين الأوفياء، من الشمال إلى الجنوب، من البادية إلى الريف والمخيّم، أولئك الذين غرسوا حب الوطن في قلوبهم، وظلّوا له الأوفياء مهما اشتدت الخطوب. فالأردن ليس فقط وطنًا نعيش فيه، بل كيانٌ يسكن فينا…
وسنبقى أوفياء للوطن ولقائدة، ما دام فينا نَفَس يتردد.