facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




"ماذا قال الكونت" .. جسرٌ فلسفيٌّ وسرديٌّ بين العوالم والثقافات


فواز الخلايلة
29-04-2025 04:27 PM

تُعد رواية "ماذا قال الكونت" للروائي الأردني مصطفى القرنة تجربة سردية استثنائية تدمج بين الواقع والخيال، وتفتح آفاقًا جديدة للحوار بين العوالم المختلفة؛ سواء تلك المرتبطة بالزمن والمكان أو تلك المتصلة بالأفكار والهويات والثقافات. في هذه الرواية، لا يُقدِّم القرنة سردًا تقليديًا بل يذهب إلى أبعد من ذلك، عبر استحضار شخصيات عالمية خالدة من روايات الكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي، ضمن حبكة تخييلية تدور في مؤتمر أدبي منعقد في موسكو، حيث يلتقي بطل الرواية بهذه الشخصيات ويبدأ معها رحلة فكرية وإنسانية غنية بالحوارات العميقة والتأملات الفلسفية.

ويمثّل الحوار في هذه الرواية أداة محورية لا تقتصر وظيفته على نقل الأحداث أو بناء الشخصيات فحسب، بل يتجاوز ذلك ليصبح وسيلة لفهم الذات، واستكشاف الآخر، وتفكيك قضايا وجودية معقدة ترتبط بالهوية، والحرية، والمصير، والحب، والخيانة، والفقر، والغنى. من خلال هذه الحوارات، يُقيم القرنة جسورًا متينة بين العوالم السردية والثقافية، ويبرهن على قدرة الأدب في تجاوز الحواجز الزمانية والمكانية، ليشكّل خطابًا إنسانيًا موحّدًا ينطلق من الخصوصية ليصل إلى الكونية.

وتُعد رواية "ماذا قال الكونت" مثالًا بارزًا على هذا الانشغال بالحوار الثقافي والتأمل الفلسفي من خلال السرد.

في الرواية، يُبدع مصطفى القرنة في بناء فضاء تخييلي غير مألوف، حيث يلتقي بطل الرواية بشخصيات خالدة من أعمال تولستوي، مثل بيير بيزاخوف والأميرة ناتاشا وكونت أناتول. لا يقتصر اللقاء على تبادل الحديث، بل يتطور إلى حوارات معمقة تتناول قضايا كبرى تهم الإنسان في كل زمان ومكان. وهكذا، يُقيم القرنة جسرًا سرديًا بين عالمه العربي المعاصر وعالم الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، بين الواقع العربي وتخيلات الأدب العالمي.

هذه التقنية السردية لا تُعد مجرد ابتكار فني، بل تُعبّر عن موقف فكري وفلسفي منفتح يؤمن بأن الأدب يمكنه تجاوز الحدود، وربط الماضي بالحاضر، وربط الشرق بالغرب. كما أن القرنة يُظهر براعة في تطويع الشخصيات العالمية لتخدم تساؤلات الإنسان العربي المعاصر، دون أن تفقد أصالتها أو خصوصيتها.

يتحوّل الحوار في الرواية إلى وسيلة لاستكشاف الذات، حيث يضطر بطل الرواية، من خلال تفاعله مع الشخصيات التولستوية، إلى إعادة النظر في قيمه ومعتقداته، والتساؤل عن معنى وجوده في هذا العالم المعقّد. إن الحوارات لا تدور فقط في إطار تبادل الأفكار، بل تتعمق إلى حد يجعلها مرآة يواجه فيها البطل نفسه، بكل ما تحمله من أسئلة وصراعات وتناقضات.

في هذا السياق، يُبرز مصطفى القرنة كيف أن الحوار الأدبي يمكن أن يكون أداة لفهم الذات الجماعية أيضًا، من خلال مساءلة الهويات الوطنية والثقافية، وموقع الفرد في المجتمع، وتأثير العوامل السياسية والاقتصادية في تشكيل هذه الهويات.

تتجلى براعة القرنة في جعل الحوارات تنفتح على تساؤلات فلسفية عميقة تمسّ جوهر الوجود الإنساني. يناقش البطل مع شخصيات تولستوي قضايا مثل: هل الإنسان حرٌّ في قراراته أم أن مصيره محتوم؟ ما هو معنى العدالة؟ ما الفرق بين الأخلاق الدينية والأخلاق الإنسانية؟ ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش؟

هذه الأسئلة الفلسفية لا تُطرَح بأسلوب تعليمي مباشر، بل تنساب ضمن الحوارات بذكاء، مما يُثري النص ويمنحه عمقًا فكريًا يُحفّز القارئ على التفكير النقدي والتأمل الذاتي، ويجعل الرواية ليست مجرد عمل سردي بل تجربة فكرية شاملة.

من أهم ما تُبرزه الرواية هو قدرة الحوار على بناء جسور للتواصل بين الثقافات. فبمجرد لقاء البطل العربي مع شخصيات روسية، يبدأ تلاقٍ حضاري عميق يتجاوز الصور النمطية وسوء الفهم المتبادل. تُتيح هذه اللقاءات للقارئ العربي أن يرى "الآخر" بصورة أكثر إنسانية وتفهمًا، وفي الوقت نفسه يُمكن للقارئ من ثقافات أخرى أن يكتشف في الرواية وجهًا من وجوه الثقافة العربية الحديثة المنفتحة والمتفاعلة مع الفكر العالمي.

هكذا يتحوّل الأدب، من خلال الحوار، إلى مساحة للتمازج والتفاهم والتعايش، بعيدًا عن الصراعات الأيديولوجية والسياسية، وهو ما يؤكده انشغال مصطفى القرنة طيلة مسيرته الأدبية بقيم الحوار والاختلاف والتنوع.

رواية "ماذا قال الكونت" لمصطفى القرنة ليست مجرد عمل تخييلي، بل هي مشروع فكري وجمالي يسعى لتوسيع حدود الرواية العربية وإدماجها في سياقات فكرية وجمالية عالمية. من خلال الحوار الذي يشكّل محور الرواية، يتمكن القرنة من بناء جسر بين الذاتي والموضوعي، بين المحلي والعالمي، بين الواقعي والخيالي.

يُظهر الحوار في الرواية طبيعته المتعددة الوظائف: فهو وسيلة للتأمل الفلسفي، وأداة لاستكشاف الهوية، وجسر للتواصل بين الثقافات، وأداة لتوسيع أفق الرواية العربية. أما مصطفى القرنة نفسه، فقد كرّس جهده لتطوير المشروع الثقافي العربي من خلال عضويته ومشاركاته في الاتحادات الأدبية، ومن خلال كتاباته التي تجاوزت اللغة لتُترجم إلى لغات متعددة، وتُصبح موضوعًا للدراسة الأكاديمية، ما يعكس مدى تأثيره في الساحة الأدبية والفكرية محليًا وعالميًا.

وفي زمن تتكاثر فيه الأصوات المتنازعة، يُقدّم القرنة نموذجًا للكاتب المثقف الذي يرى في الأدب وسيلة للحوار لا للصراع، وللتقريب لا للتنافر. رواية "ماذا قال الكونت" تظل واحدة من العلامات البارزة في هذا المسار، حيث تلتقي فيها الشخصيات والأفكار والثقافات لتُنتج نصًا إنسانيًا عابرًا للحدود.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :