لا يُبنى الوطن بالبطولات الزائفة، ولا الثرثرات الفارغة، ولا الأصوات الناقمة، ولا الأقلام الناقدة لكل شيء بحق أو بدون حق، الذين بنوا الوطن وصانوه صدقوا ما عاهدوا الوطن عليه، عملوا بصمتٍ عجيب، وفعل دؤوب، ما لانوا يوم لان أصحاب المصالح، ولا تخاذلوا حين تخاذل المرجفون، ولا خانوا لحظة خان المنافقون.

سرديتهم واضحة وضوح الشمس، وساطعة سطوع القمر، لا يخجلون منها أمام قريبٍ أو بعيد، ولا أمام صديقٍ أو غريب، لأنّها سرديةٌ طاهرة نقيّة، مجبولةٌ بدماء أبطالها الذين استشهدوا على أسوار القدس، ومعجونةٌ بعرق فلّاحيها الذي تساقط منهم وهم يُكلّلون الأرض بأكاليل البذار في أوائل ربيعهم ويزفّونها بأهازيج حصادهم في منتصف صيفهم، سرديتهم كلماتها حكمة الشيوخ وهم يصلحون ذات البين، أو يقتصّون لمظلوم من ظالم في بيتٍ من الشَّعر، ولحنها عزف الرعاة الخالد الذي ترقص معه الأرض في باديتهم وهي تغني أنّها كانت وستظلُّ لهم.

الذين يبنون الوطن هم رجالٌ يؤمنون به وينتسبون إليه، يفخرون به جامعًا لكل هويّاتهم الفرعية، ويذوبون في هويته الجامعة لهم عندما يلتقون على حبه وحراسته والدفاع عنه، عَلمه رايتهم التي لا راية لهم غيرها، واسمه تاج ولؤلؤة أسمائهم في نهاياتها، فعندما يتعلّق الأمر بالوطن يصيرون كلهم الوطن.

الذين يبنون الوطن يرونه قطعةً من الجنّة وإن صابهم شيءٌ من النكران، ويحسبونه النعيم وإن لحقهم بعضٌ من الشقاء، الذين يبنون الوطن سكاكينهم يشحذونها تربصًا لعدو، أو احتراسًا من غادر، أو خوفًا من متآمر، عيونهم مفتوحةٌ لا تنام، وقلوبهم قلقة لا تطمئن، لا يرفعون في وجه وطنهم سيفًا ليس له، ولا يقولون في ظهره ما ليس فيه، ولا تأخذهم في الاعتراف بحبه لومة لائم.

الذين يبنون الوطن هم العاشقون، العاشقون هم أقدر الناس على وصف طبيعة العشق، فالعشق معلّم للنفوس، ومهذب للسلوك، وضابطٌ أخلاقيٌ لتفاصيل الأشياء، العشقُ توحّدٌ في الكينونة، وتماهٍ في الوجود، والذين يبنون الوطن هم العاشقون لهوائه وترابه وسمائه، هم المؤمنون بكينونته المتوحّدون به، المتماهون بوجوده، المدافعون عنه.

الوطنُ رسالةٌ ساميةٌ لا تؤدّى إلّا بالانتماء إليه، وسرديةٌ محفورةٌ في وجدان كل عاشق له، وهويةٌ بحجمه منقوشةٌ على جبين أبنائه.