في زمنٍ مضى، كانت الروضةُ أولى خطواتنا إلى المدرسة، نتعلّمُ فيها الحساب بـ "العدّاد الخشبي"، والأحرف الأولى للغة بالصور، والعمل الجماعي بالألعاب الجماعية، كانت فسحتنا وجبة إفطارٍ من الأرزّ بالحليب البودرة، يأتي كمساعداتٍ بأكياسٍ كبيرة، لا صورة بقرةٍ حلوبٍ عليه، ولا أطفال يبدون بكامل صحّتهم وأناقتهم، ننتظره حتى يبرد لتتجمّد تلك الطبقة السطحية وتشكل ما يشبه الكنافة الخرافية، نتسابقُ إليه بفرحٍ طفوليٍ بريء.
أنا الموغل في كره الحليب منذ خُلقت، كنتُ أشارك أصدقائي انتظار الوجبة لأنّ طعمها لم يكن يشبه طعم الحليب الذي كرهته أبدا، ربما لأنّها كانت تُصنع بحب، وربما لأنّ ذاكرة الأطفال قصيرة، وربما لأنّ معلماتنا لم يكنّ معلماتٍ قدر ما كُنّ أمّهات.
في زمنٍ مضى، غادرنا الروضة إلى المدرسة وكأنّنا نغادر عهد الطفولة إلى مرابع الرجال، الصدمة هناك كانت كبيرة، كنّا نحسبُ أنفسنا كبارًا فاكتشفنا أنّنا أصغر الطلاب في المدرسة، وحسبنا أنفسنا صغارًا فاكتشفنا أنّ المعلمين يتعاملون معنا بخشونةٍ كأنّنا رجال، وما بين هذا وذاك كنّا نتشكّلُ لنكون.
رباب بفستانها القصير لم تكن غريبةً علينا، فقد كانت معنا في الروضة أختًا وصديقة، وباسمُ كان كلّ واحدٍ فينا نتشبّه به عسى أن نكونه يوما، أما أبوهما بشاربه الكثّ فكان يشبه والدنا كثيرا، تعلمنا مع باسم ورباب كيف تتشكّلُ الحروف، وكيف تُكتبُ الكلمة، وتعلّمنا صياغة الجملة، فلم يكن غريبًا على جيلنا أن يقرأ الجريدة اليومية في الصف الثاني أو الثالث، أو أن ينتظر والده حتى يفرغَ من قراءة المجلّة حتى يتقاتل مع إخوته على من يقرأها بعده
الصّفُ الثاني والثالث (ولأسبابٍ لا نعلمها) غادرنا مدرسة الذكور إلى مدرسة الإناث، درسنا الصّفين دراسةً مُختلطةً ذكورًا وإناثا، وما تزال الذاكرة تحفظ بصور أمهاتنا المعلّمات، أطال الله أعمار من هنّ منهنّ على قيد الحياة، ورحم الله من غاب منهن (الست وصال، الست حمدة، الست أميرة، الست بسمة)، لم تكن كلمة (مِس) دارجةً في زماننا، ولم تكن الحقيبة مليئةً بأكثر من ثلاثة كتب (عربي، دين، حساب)، لكنّها كانت كافيةً لتأسيسنا على لغةٍ سليمة بشكل كبير، ومبادئ دينٍ صحيح يكفينا لنهتدي إلى الطريق، وعمليات حساب بسيطةٍ واضحة (رغم أنّي لغاية اليوم لا أحفظ جدول الضرب جيّدًا).
في زمنٍ مضى، وفي بداية الصّف الخامس دخلت اللغةُ الإنجليزية علينا كمادةٍ مقرّرة، كنّا مرعوبين من هذه اللغة الجديدة، فما لنا ولها ونحنُ نُجيدُ العربية قراءةً وكتابةً، وبناءً وتشكيل، دخلنا المواجهة معها مع معلمين كانوا يحملون شهادة (دبلوم كليّات المجتمع)، كانوا هم أيضًا آباء لنا أكثر من كونهم معلّمين، الخوفُ من اللغة الجديدة معهم زال، والرعبُ تلاشى، وبدأنا رحلة تعلّم اللغة الجديدة بحبٍ وسلام حتى انتهى بنا المطافُ إلى دراسة رواية الـ (Animal Farm) لجورج أورويل في مادة الـ (ِAnthropology) دون عناءٍ يُذكر
في زمنٍ مضى كُنّا نُحبُّ المدرسة، ونُحبُّ العَلم، ونخافُ على الوطن، ونهتفُ له بصيحاتٍ كشفيةٍ موسيقية، كنّا نحبّ المعلمات والمعلمين، ونحبُّ المناهج المدرسية التي تزيد من معرفتنا، لم يكن الغيابُ عن المدرسة سلوكًا دائمًا، ولا بُغضُ الدراسة منهجًا يوميًا، ولا أداءُ الواجباتِ المدرسية وحملُ الكتب كُرها على كره.
في زمنٍ مضى، خرّجت المدارسُ معلمين وأطباء ومهندسين ومحامين وموظفين ومدراء دوائر ووزراء ونوّاب وأعيان، يمتلكون معرفةً كثيرة، ولغةً عربيةً ممتازة، وإنجليزيةً جيّدة، وخطًا في الكتابة جميل.
في زمنٍ مضى، خرّجت تلك المدارسُ من غيّروا كلّ شيء، فما الذي تغيّر!!