سراب الأرقام .. وغيابُ الأثر: مراجعةٌ شعبيةٌ لرؤية التحديث الاقتصادي
م. عامر البشير
02-05-2025 08:55 PM
تقرير نقدي حول الأداء التنفيذي لرؤية التحديث الاقتصادي (2023–2025) في الأردن – حتى نهاية الربع الأول من عام 2025، في تاريخ الأمم، كما في سيرة الإنسان، لا تُقاس النهضة فقط بما تمّ إنجازه رقميًا، بل بالاتجاه الذي اتُّخذ، بالزمن الذي أُهدر، وبالأثر الذي تركه الفعل في وجدان الناس ومعيشتهم، وفي قراءة الواقع الأردني بعد عامين على إطلاق رؤية التحديث الاقتصادي، نجد أن السؤال الذي يجب أن يُطرح ليس: كم أنجزنا؟ بل: ما الذي تغيّر فعلاً؟
رُفعت رؤية التحديث الاقتصادي في نهاية 2022 برعاية ملكية سامية، وجاءت متكئة على ثلاثية التحديث: السياسي، والإداري، والاقتصادي، في لحظة تشكّل وطني كانت تتوق فيها البلاد إلى قفزة تنموية تعوّض سنوات التراكم والتعثّر، لكن حتى نهاية الربع الأول من 2025، تُظهر القراءة الميدانية أن مسار التحوّل المأمول ما زال حبيس النوايا الحسنة، وأن ما تحقق – رغم الإشارات الإيجابية – لم يرقَ بعد إلى مستوى الطموحات، ولم يترك الأثر المنتظر في حياة الأردنيين.
أولًا: الإنجاز ليس رقمًا... بل أثر
تُعلن الحكومة أنها أنجزت 157 أولوية من أصل 545، بنسبة 28.8%. لكن هذه النسبة – في معزل عن أثرها الملموس – لا تكفي لتبرير النجاح. فالرقم في ذاته ليس إنجازًا إن لم يُترجم إلى واقعٍ أفضل في الصحة، والتعليم، والنقل، والدخل، وسهولة العيش. فالمواطن الذي لم يشعر بتغيير إيجابي في يومه، لا تعنيه جداول الأداء ولا مؤشرات التنفيذ.
ثانيًا: التأخير أصبح نمطًا لا استثناء
17 أولوية حيوية لم تُنجز في موعدها، من بينها مشاريع في غاية الأهمية، مثل إنشاء مصانع أدوية وطنية، وربط المراكز الصحية إلكترونيًا، وتطوير البنية التحتية للتعليم المهني. هذا التأخير يكشف عن علّة مزمنة في الإدارة العامة: غياب التنسيق، تكرار الخطط، وازدواجية الصلاحيات، وليس فقط نقص الموارد أو الكوادر.
ثالثًا: "قيد التنفيذ" ليست وصفة سحرية
يُصنَّف نحو 66% من الأولويات على أنها "قيد التنفيذ"، وهي عبارة باتت تستخدم كثيرًا لتأجيل التقييم والمساءلة. دون معايير واضحة تحدد ما تعنيه هذه العبارة (هل تم إعداد وثائق المشروع؟ هل بدأ التنفيذ الميداني؟ هل رُصد التمويل؟)، فإننا أمام ستار لغوي يحجب الحقيقة ولا يكشفها.
رابعًا: غياب التوازن في الجهد والقطاعات
من الواضح أن التركيز الأكبر ذهب إلى قطاعات محددة، مثل الصناعات عالية القيمة، في حين بقيت ملفات تمسّ جوهر العدالة الاجتماعية مثل جودة الحياة، العدالة السكنية، الثقافة، والهوية الوطنية في مرتبة ثانوية. كما أن قطاعات حيوية كالنقل العام، والتعليم الأساسي، والزراعة المستدامة ما تزال متأخرة رغم إلحاحها وارتباطها المباشر بحياة الغالبية.
خامسًا: المشكلة ليست فقط في التمويل
رُصد 734 مليون دينار للرؤية خلال عام 2024. ومع ذلك، لم نرَ نتائج تعادل هذا الإنفاق، التحدي الحقيقي ليس في توفر المال، بل في توجيهه بكفاءة، وفي غياب منظومة رقابة فاعلة على الأولويات، وضعف الشفافية في الإعلان عن نسب الصرف الفعلية وأوجه استخدام المخصصات.
سادسًا: الرؤية عقد اجتماعي لا وثيقة حكومية
الرؤية ليست ملكًا للوزارات، بل مشروعًا وطنيًا جماعيًا. ولكي تنجح، يجب أن تتحوّل من وثيقة مكاتب إلى التزام حيّ ومشترك، بين الدولة والمواطن والقطاع الخاص والمجتمع المدني، الثقة العامة تآكلت ليس فقط بسبب بطء التنفيذ، بل لغياب المصارحة، ولتحوّل الرؤية إلى ملف علاقات عامة أكثر من كونها أداة تغيير حقيقي.
مقترحات عملية لتعزيز النجاح في المرحلة المقبلة:
1ترسيخ احترام الزمن: لا تنمية دون الالتزام بالجدول الزمني للمشاريع، ووضع آلية لتعويض التأخير وربط ذلك بالمساءلة.
2إعادة ترتيب الأولويات: منح الأسبقية للمشاريع المفصلية المرتبطة بالتكنولوجيا، النقل العام، الغذاء، والصحة، على حساب المبادرات الهامشية.
3إنشاء مرصد مستقل للرؤية: يتكون من خبراء مستقلين، وممثلين عن المجتمع المدني، يتابعون التنفيذ شهريًا ويصدرون تقارير للرأي العام.
4وقف ترحيل الأولويات دون محاسبة: الترحيل يجب أن يخضع للتقييم الفني لا للمزاج السياسي، مع تقارير توضح الأسباب وطرق المعالجة.
5تحويل المؤشرات إلى أدوات تحكّم يومي: عبر لوحة قيادة رقمية شفافة، يطّلع عليها المواطنون والمسؤولون على حد سواء، ويُحاسب الجميع بناءً عليها.
ومضة أمل
رغم كل ما ذُكر، لا تزال الرؤية ممكنة، إن تحوّلت من ورق إلى التزام، ومن دعاية إلى أداء، ومن هندسة لغوية إلى عقد أخلاقي، الأردنيون لا يريدون معجزات، بل وضوحًا في المسار، وصدقًا في الوعود، واحترامًا لعقولهم، فالمعركة ليست بين الحكومة ومن يراقبها شعبياً، بل بين الجمود والحياة.