ترامب في الشرق الأوسط: زيارة في قلب العواصف الجيوسياسية
صالح الشرّاب العبادي
03-05-2025 12:32 AM
في ذروة التوترات الإقليمية والعالمية، وفي لحظة سياسية فارقة تشهد اشتعال الجبهات وتغير موازين القوى، تأتي زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط كحدث يتجاوز الطابع الرمزي أو العلاقات الدبلوماسية او تبادل الزيارات ، إنها زيارة تكشف عن اتجاهات عميقة في إعادة تموضع الولايات المتحدة، وتعيد فتح ملفات ملتهبة من حرب غزة إلى تجارة النفط، ومن الملف النووي الإيراني إلى العلاقات الدولية المتشابكة ، إلى حرب المضائق ، وسط غموض يلفّ مستقبل فلسطين والمنطقة.
غزة: حرب الإبادة البشرية والسياسية والجغرافية
زيارة ترامب تتزامن مع مرحلة خطيرة من العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث لم يعد الحديث يدور عن “ردع حماس” أو “تفكيك الأنفاق”، بل عن خطة ممنهجة لإعادة هندسة القطاع والاقليم ديموغرافيًا وجغرافيًا حسب رؤية إسرائيل ومن يدور بفلكها ، التحركات العسكرية الإسرائيلية والتصريحات الاستباقية للزيارة أن الحرب ستستمر إلى أكتوبر المقبل ، مع استدعاء الآلاف من الاحتياط وتوسيع العملية في غزة واعتبار الأسرى اولوية ثانبة ، واحتلال رفح تحديدًا تكشف نوايا صارخة لإحداث اختراق في جنوب القطاع، تمهيدًا لفتح منفذ نحو سيناء وخلق واقع تهجيري يعيد إلى الأذهان نكبة 1948 و1967 ، ولكن بلغة احتلال “مبطن” تُغلفه إسرائيل بمبررات أمنية وبحجة الدفاع عن النفس بعد اعدمت الحياة في القطاع في ابشع حرب ..
وفي هذا السياق، يصبح صمت المجتمع الدولي، وتواطؤ بعض الأطراف الإقليمية، شريكًا في محاولة اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، فيما تصر مصر على رفض هذه المخططات، إدراكًا منها أن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء ليس فقط تهديدًا لأمنها القومي، بل أيضًا لمعادلة الوجود الفلسطيني في قلب الصراع.
حل الدولتين: الحبر الذي جفّ على الورق
من اللافت أن زيارة ترامب تمرّ من دون أي ذكر لحل الدولتين ، الذي كان يومًا ما ، عماد الخطاب الدولي بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ، هذا الصمت لا يعكس فقط تآكل هذا الخيار سياسيًا، بل يشير إلى أن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي والاحتلالي ، بدعم أمريكي مباشر، قد تجاوز فكرة الدولة الفلسطينية تمامًا ، وعلى الرغم من تمسّك الدول العربية وعلى رأسها الأردن و السعودية ومصر بهذا الحل كمرجعية سياسية، إلا أن الواقع على الأرض يُظهر أن إسرائيل تعمل بوتيرة متسارعة على قبره، عبر تكثيف الاستيطان، وتفكيك السلطة الفلسطينية، وتهويد القدس، وإحكام السيطرة على الضفة ، واحتلال غزة ، والتوسع الأفقي لأربع محاور ( الضفة ، لبنان ، سوريا ، غزة ) .
التطبيع تحت الضغط: ما الثمن ومن سيدفعه؟
ضمن خيوط هذه الزيارة المتشابكة، يلوح في الأفق سؤال كبير: هل يسعى ترامب لإعادة إحياء مشروع “التطبيع الشامل” مع إسرائيل، واستكمال ما بدأه عبر “اتفاقيات أبراهام”؟ المؤشرات تقول نعم ، فالمناخ الإقليمي مشحون، لكن بعض العواصم لا تزال تنظر إلى التطبيع كبوابة مرور نحو واشنطن، شريطة أن يكون الثمن مجديًا سياسياً واقتصاديًا ، ويُتوقع أن يضغط ترامب على دول لجرّها نحو موجة تطبيع جديدة، ولكن هذه المرة لن يكون الأمر بلا مقابل: فالمقابل الآن قد يكون مزيجًا من الضمانات الأمنية، والاستثمارات الضخمة، وحلولًا رمادية للقضية الفلسطينية تُسوّق كبديل عن حل الدولتين الذي تلاشى من الخطاب الواقعي ، وكيفية التعامل مع كل من ملف اليمن ولبنان وسوريا ..وحتماً ملف ايران..
الدول العربية تدرك خطورة هذا الطرح، وتسعى لتحصيل مكاسب حقيقية وليس وعودًا قبل أي خطوة تطبيعية إضافية، خصوصًا في ظل ما يشهده الشارع العربي من رفض عارم لأي تقارب مع إسرائيل وسط مشاهد الدم والدمار في غزة والضفة ، وهنا، قد يجد ترامب نفسه أمام معادلة صعبة: يريد استمرار التطبيع لدعم حلفائه في تل أبيب، لكن الثمن العربي هذه المرة بات أعلى، وأكثر تعقيدًا ، فهل تقوى الدول العربية المستهدفة بالزيارة على مقايضة التطبيع بفرض الحلول او على الاقل طلبها للقضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين ، او الطلب للجم إسرائيل وتوقفها عند هذا الحد .
مصر وقناة السويس: ممر استراتيجي في مهب التهديد
من التصريحات المثيرة التي رافقت زيارة ترامب قوله بضرورة المرور من المضائق دون دفع ( مجاناً) هذه الإشارة، وإن بدت عابرة، فإنها تمسّ شريانًا حيويًا مثل قناة السويس، الذي تعتمد عليه مصر كمصدر رئيس للدخل القومي والعملات الصعبة ، إن تجاوز هذه القناة أو تقويض دورها عبر خطوط بديلة مقترحة برية مدعومة أمريكيًا، أو تهديد ممرات التجارة البحرية في باب المندب وخليج عدن يمثل خطرًا اقتصاديًا استراتيجيًا على مصر، ويضعها في مواجهة تحديات جديدة تمس سيادتها ودورها الإقليمي، في وقت تواجه مصر تقليص حصة النيل من قبل أثيوبيا بدعم إسرائيل..
البعد الاقتصادي: ترامب وسباق المال والنفوذ
بعيدًا عن السياسة والأمن، تحمل زيارة ترامب أيضًا هدفًا اقتصاديًا خالصًا، يتمثل في تعزيز حضوره المالي والسياسي بين دول تُعرف بثقلها الاقتصادي، مثل السعودية والإمارات وقطر، وحتى إسرائيل التي تُعد مركزًا للتكنولوجيا والاستثمار الأمريكي في المنطقة ، ترامب، رجل الأعمال قبل أن يكون رجل السياسة، يدرك أن الشرق الأوسط ما زال السوق الأكبر للطاقة، والعقارات، والسلاح، والتكنولوجيا، وهو يسعى، من خلال هذه الزيارة، إلى فتح أبواب تمويل لدرء المخاطر المالية المحتملة جراء قراراته وتصريحاته ، وإبرام شراكات اقتصادية تخدم مصالحه الشخصية والمؤسساتية وتدعم قراراته وتعوض الخسائر وتعزز مواقفه امام الشعب الامريكي الذي بات في مهب الربح والخسارة يومياً ، فالرجل لا يتعامل مع الدول كحلفاء بقدر ما ينظر إليها كمستثمرين محتملين في مشروعه السياسي والمالي، ويبحث عن فرص ذهبية لإعادة تدوير نفوذه في عالم المال العالمي، لا سيما في ظل التحديات القانونية والمالية التي تلاحقه في الداخل الأمريكي.
إيران والمضائق: تصعيد مقنّع لحرب كبرى
الملف الإيراني حاضر دومًا في مشهد الشرق الأوسط، وزيارة ترامب تحيي من جديد أطروحاته القديمة حول التهديد الإيراني الذي يردده وراء إسرائيل ، مع تضارب الاهداف بين إسرائيل وامريكا فيما يخص النووي الإيراني والمفاوضات الدائرة الان والتي تسعى إسرائيل الى إفشاله بشتى الطرق ، مفاوضات البرنامج النووي أو النفوذ الإقليمي لطهران ، وفي ظل التوتر في مضيقي هرمز وباب المندب، فإن التصعيد في البحر الأحمر قد يأخذ طابعًا جديدًا، لا يستهدف فقط إيران والحوثيين، بل أيضًا طرق التجارة الدولية، مما يعزز من خطر حرب المضائق كخيار تصعيدي يلوّح به ترامب أو غيره وذلك باحتلال تلك المضائق والسيطرة عليها .
الأردن: تحديات قصوى جيوسياسية وديموغرافية..
الأردن يراقب المشهد( الفلسطيني الإسرائيلي ) بعين القلق والريبة، وهو يدرك أن أي انهيار في غزة أو تهجير جديد سيطال أمنه وحدوده وخاصة مع النهج الجداري الإغلاقي الخانق والمميت للقضية الفلسطينية والحدود مع الضفة وفلسطين مع الجولان ، والتمدد الاسرائيلي جنوب سوريا على الحدود الشمالية للأردن بحجة الدفاع عن الدروز ، فالأردن ليس فقط دولة مضيفة لملايين الفلسطينيين، بل الداعم الأول للقضية الفلسطينية و الحاضنة التاريخية لملف القدس والوصاية الهاشمية على مقدساتها ، ومع اختفاء حل الدولتين من الخطاب الدولي، تزداد الضغوط على الأردن لتقديم تنازلات أو القبول بترتيبات نهائية لا تُبقي للفلسطينيين إلا ظلال وطن ، لكن الأردن ، رغم التحديات الاقتصادية والسياسية، يرفض فكرة التوطين والوطن البديل رفضاً قاطعاً رسمياً وشعبياً ، وتتمسك برفض صفقات تُفرض تحت الضغط أو بوهم الدعم الدولي ، فالأردن هو الداعم الرئيس لفلسطين وهو المتأثر ايضاً الاول في حال اختلت الموازين ..
الضفة الغربية: سلطة بلا سيادة وشعب بلا أفق
في الضفة، تتلاشى السلطة الفلسطينية تدريجيًا، ويزداد غضب الشارع أمام انسداد الأفق السياسي، وانتشار الاحتلال في تفاصيل الحياة اليومية ، وخنق الضفة بالسلاح والجدار ، إسرائيل تعيد رسم الخريطة من جديد، لا كدولة ديمقراطية او تسعى إلى السلام ، بل كقوة استعمارية حديثة تسعى إلى ضم الضفة نهائيًا واحتلال غزة وتهجير شعوبها ، زيارة ترامب قد تكون، من زاوية أخرى، محاولة لإعادة هندسة المشهد الفلسطيني، إما بخلق قيادات بديلة، أو بتكريس الانقسام بين غزة والضفة، او بالتصميم على التهجير ، ليصبح الحديث عن “دولة فلسطينية” محض خيال.
الصين وروسيا وأمريكا: الشرق الأوسط ساحة نزاع عالمي
المنطقة ليست بمنأى عن الصراع بين القوى الكبرى ، فبين الحرب في أوكرانيا والمفاوضات في الرياض ، وصعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية، بات الشرق الأوسط يُستقطب في لعبة النفوذ الكبرى. الولايات المتحدة، عبر زيارات مثل زيارة ترامب، تحاول منع التمدد الصيني والروسي، والحفاظ على نفوذها التاريخي ، لكن الواقع تغيّر: فالدول العربية باتت تلعب على حبال متعددة، فدول تتراجع في الاقليم ودول تتقدم ( ايران وتركيا) ( الصين والاتحاد الاوروبي) ( روسيا وأكرانيا )( إسرائيل وتركيا) ولم تعد واشنطن وحدها مركز القرار ، ومن هنا، تبدو زيارة ترامب أيضًا محاولة لاستعادة هيبة أمريكية تتآكل، في عالم ما بعد الأحادية القطبية.
رياح التغيير تهب من كل الجهات
ليست زيارة ترامب إلى الشرق الأوسط حدثًا معزولًا، بل هي جزء من زلزال سياسي وجغرافي يضرب المنطقة ، مركزه ، تصفية القضية الفلسطينية كمشروع اسرائيلي كبير بالتمدد الأفقي الرباعي لإسرائيل ، بداية من حرب غزة، إلى إعادة تشكيل الخرائط الى الملف النووي الايراني ، من تهديد المضائق، إلى اختفاء حل الدولتين، ومن صراع الكبار، إلى مخاوف الجيران… كل شيء يتحرك ، والسؤال الآن: هل نحن على أعتاب صياغة شرق أوسط جديد بالفعل والذي حتماً هو لصالح إسرائيل؟ أم أمام إعادة إنتاج الكوارث القديمة بثوب مختلف؟