facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




في حضرة الحقيقة المغتالة


د. ربا زيدان
03-05-2025 12:20 PM

في الثالث من أيار من كل عام، يرفع العالم "المتحضّر" شعار "اليوم العالمي لحرية الصحافة"، لكن أي حرية تلك التي نحتفي بها اليوم؟ وأي مساحة بقيت للكلمة في عالم يُحاصَر فيه صوت الحقيقة من كل الجهات؟

الصحافة التي كانت يومًا مرآة الشعوب وضمير الإنسانية، غدت مهنة تُمارَس بين أنياب القمع وتحت ظلال الرعب، تُطاردها الأنظمة المستبدة، ويخنقها المال والسلاح، وتُلاحقها الخوارزميات والأجندات، حتى باتت الحقيقة ترفًا لا يجرؤ على الاقتراب منه سوى من نذروا أرواحهم لها.

كأستاذة في الصحافة والإعلام، أواجه في كل عام سؤالًا يزداد ثقله: كيف أُعلّم طلابي حرية التعبير، ونحن نعيش زمنًا يُقتل فيه الصحفي لأنه صدق؟ كيف أشرح لهم أهمية الشفافية ونقل الواقع، بينما يُغتال الواقع نفسه قبل أن يُنقل؟ نُدرّسهم النزاهة والاستقلالية، نُعلّمهم أن الصحفي شاهد لا شريك، وأن العدسة أداة مقاومة، لكنهم يخرجون إلى عالم لا يحتمل صوتًا خارج السرب، عالم يُكافئ من يُحسن تزييف الحقيقة، ويُسكت من يجرؤ على قولها.

في عام 2024 فقط، قُتل 124 صحفيًا حول العالم، 70% منهم قضوا على يد " الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" كما يحلو للعالم الغربي أن يدعوها.. وحدها فلسطين احتضنت مجزرة إعلامية مكتملة الأركان؛ 111 صحفيًا فلسطينيًا استُشهدوا خلال عام واحد، على يد جيش الاحتلال الاسرائيلي ليرتفع العدد إلى أكثر من 202 منذ السابع من أكتوبر 2023. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات باردة؛ إنها وجوه وقصص وحكايات وأصوات اختنقت لأنها قررت أن تشهد، لا أن تصمت.

قُتلوا وهم يحملون الكاميرا والميكروفون، يسجّلون المأساة، ويوثّقون المجازر. ويستجدون العالم الكاذب، المنافق، الصامت كي يتحرك.
في نيسان الحالي، 2025، استهدفت "اسرائيل" مخيما للصحفيين داخل مستشفى ناصر بخان يونس، فارتقى الصحفي حلمي الفقعاوي، وأُصيب آخرون. لم يكن قصفًا عشوائيًا، بل رسالة مدروسة، مفادها: اسكتوا، أو تموتوا.

لكن القتل لم يكن الوجه الوحيد للجريمة. خلال عام واحد، وُثّقت 145 حالة اعتقال واحتجاز لصحفيين فلسطينيين، بعضهم لا يزال خلف القضبان، دون تهمة سوى أنهم نقلوا ما لا يريد العالم أن يراه. مُنعت معدات السلامة المهنية، قُطعت الكهرباء والوقود، توقفت الصحف عن الصدور، وساد صمت مفروض بالقوة. وبينما تُغتال الكلمة وتُقصف العدسة، يتواصل الصمت الدولي، كأن الحقيقة لا تستحق أن تُحمى، وكأن قتل الصحفيين ليس جريمة، بل تفصيل هامشي في صراع لا مكان فيه للعدالة.

في القاعات الجامعية، نُخبر طلابنا أن العدسة سلاح شريف، لكن في فلسطين العدسة تُقصف، والميكروفون يُستهدف، وكل من يحاول أن يروي ما يحدث، يصبح هدفًا. الصحافة اليوم لم تعد سلطة رابعة، بل صارت ضحية. ضحية للاستبداد، والهيمنة، ورأس المال، وعالم الأعمال، وتجار الحرب، والجيوش الافتراضية التي لا تخدم إلا رواية المنتصر. كثير من وسائل الإعلام تحوّلت إلى مشاريع سياسية لا مهنية، تحركها الشركات الكبرى، وتُديرها صفقات مغلقة وأجندات مدفوعة. في هذا المشهد، تراجعت الأصوات الحرة، وصعدت أصوات التبرير والتزييف. أصبحت الحقيقة عبئًا، فتم طردها من الشاشات والمنصات، واستُبدلت ببضاعة مزيفة تُباع تحت لافتة "التوازن المهني".

كل صحفي يُقتل بلا محاسبة هو جريمة ضد الإنسانية. كل رصاصة تُطلق على حامل قلم، هي رصاصة في صدر الوعي. وكل عدسة تُكسر، هي محاولة متعمدة لإخماد ضمير العالم

في اليوم العالمي لحرية الصحافة، نرفع أسماء الذين سقطوا شهداء للكلمة. لا نحتفل، بل نُصغي لصدى أصوات قُطعت كي لا تُسمع، ولعدساتٍ تحطمت لأنها اقتربت من الحقيقة أكثر مما ينبغي. لكن الحقيقة لا تُدفن، حتى وإن وارى الثرى أصحابها؛ فهي تعود مع كل صحفي ينهض بالكاميرا رغم الرعب، ومع كل كلمة تُكتب بشجاعة في وجه الجلاد. ستبقى حرية الصحافة حلمًا مُرًّا، لكنه حي، ما دام هناك من يرفض الصمت، ويؤمن أن الحبر قد يهزم الرصاص، وأن قول الحقيقة، في زمن الكذب، هو أسمى أشكال المقاومة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :