لم تكن انتخابات 2024 النيابية في الأردن مجرّد استحقاق دستوري دوري، بل جرى تسويقها كذروة مشروع الإصلاح السياسي، ومحطة فاصلة في المسار نحو تحديث الحياة البرلمانية. قانون انتخاب جديد، قوائم حزبية وطنية، حصة مخصصة للحزبيين، ووعود بتجديد الدماء السياسية في المؤسسة التشريعية.
بدا الأمر وكأننا على أعتاب ولادة جديدة لبرلمان مختلف، يفرز كتلًا سياسية واضحة، ويطلق دينامية جديدة بين الحكومة والمعارضة، ويضع البلاد على سكة الانتقال نحو حكومات برلمانية حزبية.
لكن مع قرب انقضاء أول دورة عادية للمجلس الجديد، انكشفت الحقيقة المرة: لا كتل، لا برامج، لا معارضة، لا حكومة ظلّ… فقط ذات المشهد المألوف منذ عقود، ولكن بقالب جديد.
البرلمان الذي راهنا عليه كمقدمة لتحوّل نوعي في الحياة السياسية، جاء مشلولًا عن أداء دوره، عاجزًا عن تشكيل ظهير داعم للحكومة أو جبهة معارضة منظمة. بقي المستقلون يتصدرون المشهد، وظلت المناكفات تحت القبة كما عهدناها: استعراضات خطابية، شخصنة، وغياب شبه تام للنقاشات المؤسسية أو البدائل السياسية. حتى القوانين المصيرية التي عُرضت، كالموازنة العامة، لم تُناقش بروح كتلوية أو نقد منهجي مدروس، بل بمنطق الردود السريعة والمواقف الموسمية.
الأدهى من ذلك، أن الأحزاب التي دخلت البرلمان، أو تلك التي شاركت ولم تفز، تراجعت إلى حالة من الكمون السياسي. الأحزاب التي يُفترض أنها الذراع الشعبي للتحديث السياسي، اختفت من المشهد العام. لم تُظهر مبادرات مجتمعية، لم تُنتج أوراق سياسات، ولم تخض أي معارك فكرية أو ميدانية تعزز حضورها أو تبني ثقة الشارع. وكأنها جاءت فقط لتحجز موقعًا انتخابيًا، ثم غادرت المشهد بصمت، تاركة الميدان لمنطق الفرد والولاء الضيق.
هذا السلوك الحزبي يُنذر بخطر جوهري: إذا استمر الجمود، فإننا ماضون حتمًا نحو إنتاج نسخة معدّلة من برلمانات ما قبل 2024، حيث الشكل حديث والجوهر تقليدي، وحيث تتوارى الفاعلية السياسية خلف قشرة إصلاحية لا تصمد أمام أول اختبار حقيقي.
الأحزاب مطالبة بأن تنهض من سباتها، وتدرك أن السياسة ليست موسمًا انتخابيًا، بل معركة يومية على الوعي، والبرامج، وبناء الشرعية المجتمعية. لم نشهد أي تفعيل جادّ لدور هذه الأحزاب في الفضاء العام، لا على صعيد النقابات، ولا الجامعات، ولا الفضاء الإعلامي. لم نرَ ندوات، ولا أوراق سياسات، ولا حملات تواصل مجتمعي فاعلة. وكأن المشاركة في الانتخابات كانت أقرب إلى أداء واجب موسمي، لا مسارًا سياسيًا طويل النفس.
الرهان على المواسم الانتخابية وحدها ضرب من الوهم، ما لم تسبقها صحوة حزبية حقيقية، وخلاص من ثقافة الكوتا السياسية، والتوظيف الرمزي للتمثيل الحزبي. فبدون حضور سياسي حيّ ومستدام، سنجد أنفسنا مرة أخرى أمام برلمان يجلس على مقاعده “نوّاب حزبيون”، لكنّهم بلا أحزاب، وبلا مشروع، وبلا أثر.
إن لم نكسر هذه الحلقة الآن، فسنظل نراوح مكاننا، نُحدّث القوانين، ونُجمّل اللوائح، فيما تبقى الحياة السياسية في غرفة الانتظار.