الطبيب الإنسان .. كيف نصنعه؟ وكيف نحمي المجتمع من خطأ التقييم؟
أ.د. صبيح المشهداني
05-05-2025 09:58 AM
في أحد المستشفيات، وقف طبيب شاب يحمل شهادته من جامعة عريقة، يحفظ أدق تفاصيل البروتوكولات، ويجيد قراءة التحاليل والصور الشعاعية. كل شيء فيه يصرخ "كفاءة"... لكنه حين نظر إليه المريض العجوز، وقال له بصوت مرتجف: "أنا خائف..." لم يعرف الطبيب بماذا يرد. لم يضع له جهازًا، لم يحقنه بعلاج، ولم يطلب له تحليلاً... فقط بقي صامتًا. لم يكن يعرف كيف يُطمئن الإنسان.
هنا لا يكفي أن يكون الطبيب حافظًا أو ماهرًا... هنا نحتاج إلى الطبيب الإنسان.
لا يُصنع الطبيب الإنسان في قاعة المحاضرات وحدها، بل في ممرات المستشفيات، في صمت غرف العناية، في دمعة أم، في لحظة عجز، في نظرة مريض يتشبث بالحياة. نصنعه حين نعلّمه أن يلاحظ الوجوه لا فقط العلامات الحيوية، أن يسمع القصص لا فقط يشخّص الأعراض، أن يسأل: كيف تشعر؟ قبل أن يسأل: منذ متى بدأ الألم؟ نصنعه حين نربّي فيه الضمير قبل المهارة، والرحمة قبل المعرفة، والتفكّر قبل الإجابة.
المصيبة ليست أننا نخطئ في التدريب، فهذا طبيعي... بل الكارثة أننا نخطئ في التقييم، فنمنح الشهادة والسُلطة لشخص لا يحمل من الطب إلا اسمه. نقيمهم بسرعة، بعد اختبار حظ أو ذاكرة، ونتجاهل: هل يقدّس حياة المريض؟ هل يتحمل المسؤولية؟ هل لديه النزاهة لقول "لا أعلم" بدل أن يغامر؟ هل تصنع منه الأخطاء طبيبًا أفضل أم شخصًا دفاعيًا؟ السم والمشرط لا يجب أن يُسلَّما لمن لا يستحق.
فالأول يقتل إن جهل، والثاني يُشرّح إن غاب عنه الضمير.
لقد مرّت أجيال في ظلمة التقييم القاسي، حيث كانت العلامة أعلى من الإنسان، والإجابات أهم من الأسئلة. لكن الوقت لم يفت. نصلح عندما نغيّر فلسفة التقييم من محاسبة إلى تفهّم، ونجعل التقييم أداة بناء لا بوابة إقصاء، وندمج أدوات تُقيّم القيم والمشاعر والتفكّر مع المعرفة، ونُدرّب الممتحنين أنفسهم على التعاطف والدقة وعدم الانحياز. نحتاج إلى نظام يُسائل قبل أن يُسلّم، ويُراقب قبل أن يُصدّق، ويحمي المريض قبل أن يكرّم الطبيب.
أن تخطئ في التعليم، فذاك يمكن إصلاحه. لكن أن تخطئ في التقييم، فأنت تُطلق قاتلاً بصيغة "دكتور". والسؤال الذي يجب أن نكرره في كل اجتماع، وفي كل مجلس علمي، وفي كل لجنة تقييم: هل هذا المتقدّم إنسان؟ قبل أن نسأل: هل هو طبيب؟
* مدير إدارة القياس والتقييم في المجلس العربي للاختصاصات الصحية