إسرائيل تحترق داخل الجدار الحديدي
م. عمر الشرمان
06-05-2025 11:57 AM
قرأتُ كتاب "الجدار الحديدي" لفلاديمير جابوتنسكي، وأدركت أن ما يجري اليوم في إسرائيل لا يمكن فصله عن تلك العقيدة التأسيسية التي صاغها جابوتنسكي منذ أكثر من قرن. كان جوهر الفكرة واضحًا: لا تفاهم، لا اندماج، لا سلام، بل قوة ساحقة تبني جدارًا نفسيًا وعسكريًا يجعل العرب يقبلون بوجود إسرائيل كأمر واقع لا يمكن تغييره. هذه العقيدة تحولت إلى البنية العميقة للمشروع الصهيوني، واستمرت في توجيه سلوكه لعقود، لكنها اليوم باتت عاجزة عن توفير الحماية أمام التحولات العاصفة التي تشهدها المنطقة والعالم.
نحن نعيش لحظةً فاصلة، حيث يتقاطع الحراك الدولي مع نهاية مرحلة وبداية أخرى. فالنظام العالمي القديم، الذي قامت دعائمه على الهيمنة الأمريكية الأحادية، يتآكل، ويصعد بدلاً منه نظام جديد أكثر تعقيدًا، قائم على التعددية القطبية وتوازن المصالح الإقليمية والدولية. وفي هذا السياق، تبدو إسرائيل وكأنها الكيان الوحيد الذي لا يجد له مكانًا آمنًا في هذا التشكل الجديد.
منذ عام 2016، ومع انطلاق موجة "التطبيع" وظهور مشاريع مثل "اتفاقيات إبراهيم" و"التكامل الإقليمي"، حاولت الولايات المتحدة أن تصوغ مقاربة جديدة لدمج إسرائيل في محيطها العربي، لا بالقوة، بل عبر المصالح الاقتصادية والتحالفات الناعمة. غير أن إسرائيل، المحكومة بعقيدة الجدار الحديدي ومشروعها التوراتي التوسعي، قرأت هذا الاندماج كتهديد وجودي، لأنه يعني تذويب هويتها العنصرية وتحويلها من مشروع فوقي إلى شريك بين أنداد.
ولذلك، ومع كل خطوة نحو تسوية كبرى أو تفاهم إقليمي، تتزايد حالة الصرع داخل إسرائيل، وتدفعها أزمتها الوجودية نحو الهروب إلى الأمام. فهي تُصدّر أزماتها إلى محيطها: عدوان على غزة، تفكيك للضفة، تحرش بلبنان، تدخل في سوريا، وتوترات مفتعلة مع العراق ومصر وإيران وتركيا. لا لشيء، إلا لتأجيل لحظة الحقيقة.
تعيش إسرائيل اليوم حالة انفصام استراتيجي، فهي تدرك أن مشروع "إسرائيل الكبرى" لم يعد قابلًا للتحقيق، لكنها في الوقت ذاته ترفض أن تتحول إلى دولة طبيعية. إن التناقض بين الحلم التوراتي والواقع الإقليمي والدولي يجعلها أقرب إلى كيان مأزوم، يفضل الانتحار الجيوسياسي على الانخراط في نظام إقليمي لا يحتمل التفوق الفوقي.
ووسط هذا المشهد، تبرز الأردن كعقدة التوازن الإقليمي والأستراتيجي ، ويصبح الدور الأردني بالغ الأهمية. فالأردن، بمؤسساته، كما أثبتت التجربة، يشكل صمام أمان إقليميًا ضد تفكك المنطقة وخروجها عن السيطرة، وهو ما يجعل الأردن هدفًا مباشرًا لمشروع تفجير الجوار.
تدرك إسرائيل، ومعها شركاؤها، أن الدولة الأردنية كانت ولا تزال صمام الأمان ضد انهيار المنطقة، وأن أي محاولة لتوتير الداخل الأردني ستنقل الصراع إلى مرحلة الفوضى الشاملة، وتُخرج الملفات كلها من دائرة السيطرة إلى المجهول. ولهذا، لا تخلو السياسات الإسرائيلية من محاولات مستمرة لتوتير الساحة الأردنية، إما بإعادة تسويق بقايا مشروع وحدة الضفتين، أو التحريض على مؤسسات الدولة، أو عبر اللعب على أوتار حركات الإسلام السياسي، في محاولة مكشوفة لتوريط الأردن في أزمة ليست أزمته.
لكن ما لا تفهمه إسرائيل هو أن الشعوب والدول لم تعد تقبل بمنطق الهيمنة، وأن العقل العربي، رغم كل ما مر به، بدأ يستعيد وعيه الاستراتيجي، ويُدرك أين مصلحته الحقيقية. فالمعركة اليوم لم تعد معركة حدود أو جغرافيا، بل معركة وجود ومشروع وهوية.
ختامًا، إسرائيل لم تعد قادرة على الاختباء خلف عقيدة "الجدار الحديدي"، ولم تملك شجاعة الانخراط الواقعي في "الشرق الأوسط الجديد". هي اليوم كيان مأزوم، يقف على حافة الانكشاف الكامل. إما أن يُنتج لنفسه طاقمًا سياسيًا جديدًا أكثر واقعية، يقبل بالاندماج الشامل وفق شروط السلام الحقيقي، أو أن يسير طوعًا نحو الانتحار، جاذبًا معه المنطقة إلى جحيم لا أحد يريده. لكن ما هو مؤكد، أن ما بعد اليوم لن يكون كما قبله، وأن الزمن الذي كانت فيه إسرائيل تفرض المعادلات قد انتهى.