facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




اللهجات الأردنية: نسيجٌ من المكونات وصورةٌ عن التكامل


فارس متروك شديفات
07-05-2025 01:03 AM

في قلب الأردن، حيث تتلاقى الرياح الحارة مع نسمات الجبال العالية، وتتعانق الصحراء الذهبية مع سهول الخضراء، تنشأ لوحة إنسانية فريدة، تتبارى فيها الثقافات واللهجات لتُشكّل نسيجاً اجتماعياً مدهشاً.

هنا، لا تُختزل الهوية في لونٍ ونسيج واحد، ولا تُحكى الحكاية بلسانٍ وحيد، بل تتناغم الأصوات المتباينة لتُؤلّف سيمفونيةً من التنوّع، تروي قصة وطنٍ جمع تحت سمائه مكوناتٍ ثقافيةً غنية، جعلت من الاختلاف إرثاً، ومن التعددية قاعدة حضارية.

اللهجات.. مرآة الجغرافيا والتاريخ، فلا يمكن فصل تنوع اللهجات في الأردن عن تنوع مكونات نسيجه الاجتماعي؛ فاللهجة ليست مجرد طريقة للنطق، بل هي ذاكرة جماعية تحمل في طياتها تاريخ الناس، والتنقل، وصراعات البقاء، وحكايات التعايش، وجوهر القيم.

فمن البادية الأردنية بامتدادها، حيث تتدفق اللهجة البدوية المتعددة والمتنوعة بين قبيلة وأخرى، تجدها تتدفق بفخامة المفردات ووضوح الحروف، إلى شمال المملكة حيث تنعم اللهجة بنعومة اللفظ وإيقاعها الموسيقي، وصولاً إلى لهجات أخرى التي تحمل في نبراتها صلابة الأرض ودفئها، ولهجات المدن والبلدات التي امتزجت بثقافات متعددة ومتنوعة.... كلٌّ منها يشكل عالماً قائماً بذاته، لكنه ليس منغلقاً على ذاته.

ففي العام 2002، ومع إعلان عمّان عاصمة للثقافة العربية، وضمن مشاريعها انطلقنا –كوادر بحثية مهتمة بالتراث ولا زالت تعمل للان– في رحلةٍ لجمع هذه الكنوز اللغوية، فاكتشفنا أن ما يجمَع الأردنيين أكبر بكثير مما يفرّقهم، سجّلنا مئات بل الالاف من المفردات والعبارات والأغاني والأمثال بلهجات القبائل البدوية، والمجتمعات الريفية، والمكونات القادمة من أقاليم ومناطق عربية وإسلامية وعالمية مختلفة، ليصبح هذا التنوّع وثيقةً وطنيةً محفوظة في أرشيف وزارة الثقافة والمكتبة الوطنية، شاهدةً على أن الاختلاف ثراءٌ لا يُستثمر إلا بالحفاظ عليه.

احسنت وزارة الثقافة وعبر مشاريعها المستمرة بحماية موروثنا الشفوي، بوصفه كنزاً وطنياً يحمل بعض تعابير هويتنا ويُعبّر عن تنوّعنا، كالمشروع الوطني لتوثيق اللهجات والألفاظ المحكية، وسلسلة "معجم اللهجات الأردنية" الذي يشرح دلالات المفردات واختلافاتها الجغرافية، فجُمعت مئات الكلمات والتعبيرات من مختلف المناطق الاردنية، ليُخلّد هذا التنوع في أرشيف المكتبة الوطنية، ويحول إلى جسر بين الماضي والمستقبل، لأن اللهجة ليست مجرد لفظ، بل روح المكان وتاريخ الناس.

لعل من المهم التأكيد ان الاختلاف مكمِّلاً لا نقيضاً لشركاء الوطن، وأتذكر انه وفي إحدى جلسات توثيق اللهجات، استوقفني حوارٌ بين شيخٍ بدوي من البادية الشرقية وفلاحٍ من أعالي بلدات جرش، اختلفا في تسمية موسم المطر، لكنهما اتفقا على أن "الغيمة ما بتفرّق بين الأرضين".

هذه العبارة تلخّص فلسفة العيش الأردني؛ فالتنوع الثقافي ليس ساحةً للصراع، بل جسرٌ للتفاهم. فاللهجة الشرقية التي تحمل في "الجيم" المضمومة صوتاً قوياً، لا تتعارض مع اللهجة الشمالية التي تذوّق "القاف" ناعمةً، بل تكملها، كما تكمل الألوانُ بعضها في لوحة الفسيفساء. حتى اللهجات التي حملها الأردنيون من أصول متنوعة ومتعددة، من شنقيط غرباً الى القوقاز (1878 وصول الشيشان والشركس للأردن، وقيام العثمانيين بتنظيم توطينهم) أصبحت لهجاتهم جزءاً من النغم اليومي للأردنيين، وتذكّرنا بأن الهوية الفرعية ليست حصناً منيعاً، بل حديقةً مفتوحة تستوعب كل زهرة.

يخطئ البعض حين يجعلون من اللهجة معياراً للانتماء أو التفاضل، او مجالا للاستعلاء او منصة للإقصاء، متناسين أن قيمة الإنسان لا تُقاس بلكنته، بل بعمله، وبما يعبر عنه من أفكار، وما يختزنه قلبه من إنسانية، وتفكيره عن وعي، وما هو محتوى كلامه من جواهر القيم، وليس الوقوف السلبي عند لهجته.

فالأردني الذي ينطق "الكاف" "تش" في لهجته قادرٌ على أن يقول كلمةَ حقٍ تزن جبلاً، كما أن الأردني الذي يقلب "القاف" "ألفاً" في نبرته العمانية قد يكون حاملاً لأعمق الحكم.

لقد علّمتني سنوات البحث والمعرفة والتعلم في التراث أن اللهجة مجرد وعاء، أما ما يُقدَّم فيه فهو الذي يصنع الفارق، وكما جاء في القرآن الكريم: "وقولوا قولاً سديدا"، فالسداد في الموقف والفكر هو الأصل، أما الصوت الذي نحمله فهو انعكاسٌ لجذور نعتز بها، لا أداةٌ للبغضاء.

وفي زمن تحاول فيه العولمة تسطيح وتفتيت الهويات، ويساعدهم بذلك السفهاء الببغاوات، يظل الأردن نموذجاً يُحتذى في مسار تحويل التنوع إلى قوة ناعمة، لتكون وحدة تكتمل في ظل التنوع.

فاللهجات أوعية والقيم هي الجوهر، وهي ليست حواجزَ بين الناس، بل نوافذُ نطل منها على عوالم بعضنا البعض، وهي ليست إرثاً للماضي فحسب، بل مفتاحٌ للمستقبل، شرط أن نتذكر دائماً أن الكلمة الطيبة –بأي لهجةٍ نُطقت– هي جواز سفرنا إلى قلوب الآخرين، متضامنين معهم ام متحاورين، فليحتفِ كلٌ منا بلهجته، وليفتخر بها، لكن ليحذر أن يسجن نفسه فيها، لأن الوطن أكبر من أن يُختزل في صوتٍ ولون واحد.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :