بين الدولة والمواطن: إلى متى يبقى ابن الوزير وزيرًا؟
أ.د. أحمد منصور الخصاونة
08-05-2025 05:23 PM
ماذا تريد الدولة من مواطنيها؟ وماذا يطلب المواطنون من دولتهم؟ سؤالان محوريان يتصدران المشهد الوطني الراهن. ففي خضم تحديات داخلية متراكمة وأعباء وطنية تستلزم تقاسمًا عادلاً لحملها، تسعى الدولة جاهدةً لتوطيد أركان الاستقرار وتمتين الجبهة الداخلية وتعزيز الثقة المتبادلة بين المواطن ومؤسساته؛ لقد أُنفقت موارد طائلة في حملات التوجيه نحو حب الأردن ومحاولة تخفيف حدة الانتقادات الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي. كما عُقدت ورش عمل ومحاضرات عديدة بهدف تمتين الجبهة الداخلية، غير ان جلّ هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح. فمن نافلة القول أن أمن الدولة الأردنية ومنعتها لا يُشيَّدان بالحواجز وحدها ولا بالبيانات الشعبوية ولا بورش العمل والاحتفلات الوطنية، بل إن حصون الأمان تُبنى بلبنات الثقة المتينة، وتُحرس الجبهة الداخلية بوحدة الصف وقوة العقد الاجتماعي الوثيق الذي يربط المواطنين بوطنهم ومؤسساته.
فلا عدالة بلا أمن، ولا أمن بلا عدالة. ولا يُرتجى استقرار في ظل تغييب للمشاركة المجتمعية الفاعلة، ولا نهضة تُنتظر بمعزل عن إعادة صياغة جذرية للعلاقة بين الدولة والمواطن على أسس راسخة من الكرامة الإنسانية، والمساواة الحقّة، والاحترام المتبادل، والشفافية في اتخاذ القرارات، والمساءلة الصارمة على الأداء. فالدولة القوية بحق ليست تلك التي تمتلك أدوات القمع والردع فحسب، بل تلك التي تحظى بشرعية الانتماء الصادق، وثقة الشعب الراسخة، وإيمانه العميق بعدالة مؤسساتها.
لذا، فإن الدولة، وقبل أن تتزين بالشعارات، أو تطالب شعبها بمزيد من الصبر والتحمل، مطالبة بأن تبادر بالصدق، وتؤسس لتمكين حقيقي للمواطنين، وتبرهن بالأفعال الملموسة لا بالأقوال المعسولة، أنها جديرة بتلك الثقة. عليها أن تكون السقف الحامي الذي يحتمي به الجميع، والإطار الجامع الذي يحتضن كل أبنائه، والمؤسسة التي لا تستثني أحدًا ولا تُقصي طيفًا، ولا تُدار بالمزاج أو الولاء الشخصي الضيق، بل تُبنى على أسس واضحة من الكفاءة ، والعدالة ، والمصلحة الوطنية العليا. فتمتين الجبهة الداخلية لا يتحقق إلا بالعدالة الناجزة بين الناس جميعهم، دون تمييز أو محاباة. ولا توجد مصلحة حقيقية للدولة في أن تبقى مشتعلة بالضغائن والاحتقان، وهي تورّث المناصب والمواقع القيادية للوجاهات والمجاملات وكأنها إرث خاص. فهذا السلوك كمن ينفخ في قربةٍ مثقوبة، لا يزيدها إلا ارتخاءً وتلاشيًا. فلا استقرار يُبنى على المحاباة، ولا مستقبل يُصنع بالعشوائية، ولا ولاء يُطلب من مواطن يشعر بالغُبن أو التهميش. إن تمكين المواطن هو الاستثمار الأصدق في أمن الدولة، وهو الضمانة الأقوى لبقائها عصرية، عادلة، تحترم عقل الإنسان، وتصون كرامته، وتفتح له أبواب المشاركة لا تضع أمامه حواجز الاحتكار والتوريث.
لقد صبر الأردنيون، عبر الأجيال المتعاقبة، صبرًا جميلاً، لأنهم آمنوا إيمانًا راسخًا بأن الكرامة الوطنية أسمى من كل متاع زائل، وأن الولاء للعرش الهاشمي ليس عُملة تُقايض. فكما ساند الأجداد الملك المؤسس، وكما وقف الآباء خلف الحسين الباني، فإننا نحن أبناء هذا الجيل نقف بكل إخلاص خلف جلالة الملك عبدالله الثاني، وسيسير الأبناء من بعدنا خلف سمو ولي العهد الأمير الحسين، لأنهم يرونة رمزًا للثبات والوحدة والعدالة، وضامنًا لهوية الدولة واستمرارها. فالأردن ليس صفقة تُبرمها المصالح، ولا تركةً يتقاسمها الأقوياء، بل هو عقيدة وطنية راسخة، تتناقلها الأجيال، وتُغرس في القلوب قبل أن تُكتب في الدساتير. هوية تنبع من تراب الوطن، وتترسخ بالوفاء لتاريخه، وتزدهر حين يتحد الشعب مع قيادته في درب الإصلاح والبناء.
إن الالتفاف حول العرش ليس غريزة تبعية، بل خيار وطني واعٍ، وموقف أخلاقي نابع من إيمان الأردنيين بأن هذا الوطن لا يُصان إلا بوحدته، ولا يُبنى إلا بثقة متبادلة بين الراعي والرعية، ولا يُحمى إلا حين تذوب الفوارق، وتتعزز اللحمة، ويتقدم الجميع في مركب واحد، نحو مستقبل يصنعه الأردنيون بإرادتهم، ويقوده الهاشميون بحكمتهم وشرعيتهم التاريخية.
لكن المشهد تغيّر، والهوة اتسعت، وتعثّرت بوصلة العدالة في دروب التحيّز والمحاباة. تباعدت المسافة بين الدولة والناس، فلم تعد العدالة حاضرة كميزان للفصل، ولا الكفاءة معيارًا للوصول، بل غابت معايير الاستحقاق، وغُلّبت اعتبارات الولاء الشخصي على المصلحة العامة. انقسم المجتمع بين نخبة ضيقة محظية، تتكرر أسماؤها في التعيينات والمواقع والحقائب، حتى باتت المناصب تُدار كأنها إرث محفوظ، ولا أمانة تُحمَل، وبين أغلبية مهمّشة، لا يُطلب منها سوى المزيد من الصبر، والمزيد من التحمّل، والمزيد من الثقة، في حين لا تُستحضر إلا عند الحاجة إلى شرعنة السياسات، أو تسويق قرارات التقشّف، أو التلويح بأرقام الصبر في وجوه المعاناة.
إن أخطر ما يواجه الدول ليس ضيق الإمكانيات، بل اتساع فجوة الثقة بين مؤسساتها وشعبها، وغياب الشعور بالعدالة والإنصاف. فعندما يشعر المواطن أنه مغيّب عن دوائر القرار، مهمّش في فرص العمل، مستبعد من المشاركة الحقيقية، فإن شرعية الدولة تهتز، وتخبو جذوة الانتماء الوطني في النفوس. لذلك، فإن الإصلاح لم يعد ترفًا سياسيًا أو خطابًا موسميًا، بل ضرورة وجودية تعيد تصويب المسار، وتردّ الاعتبار للكفاءة، وتحمي الدولة من الغربة عن ناسها، قبل أن تتسع الهوة أكثر ويصعب ردمها.
إن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بشعاراتٍ رنّانة، بل يبدأ بمواجهة هذا الخلل البنيوي العميق مواجهة شجاعة ومسؤولة، ترتّب البيت الداخلي وتُعيد الاعتبار لمبادئ العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، واستحقاق المنصب على أساس الكفاءة، لا القرابة؛ وعلى أساس الوطنية، لا الوجاهة؛ وعلى أساس الخبرة، لا الولائم والجاهات. فما لم تُبنَ مؤسسات الدولة على أسس النزاهة والجدارة، ستظل مواقعها عرضة للتقويض، فكيف يُلام المواطن إذا ضاق صدره؟ وكيف يُطلب من الشاب أن يحلم وهو يرى أن المواقع تُورَّث وأن المناصب تُمنَح لا تُنتزع بالجدارة؟ يرى المحسوبية والقرابة تطغى، يرى أن ابن الوزير وزير، وصهره سفير، وصديقه مستشار، وجارة مدير وابن عمة رئيس. فيما الأكفأ يقف على هامش الانتظار أو يغادر بحثًا عن وطن بديل يقدّر الكفاءة. فكيف نُقنع هذا الجيل بجدية الإصلاح، بينما يشهد بأم عينه رؤساء جامعات يُقالون قبل أن تكتمل مدتهم القانونية، وكثير منهم أن يُكمل عامين في موقعه، وتعديلات وزارية تتكرر بلا ملامح واضحة، لأن معايير التعيين غُيِّبت ، ومقاييس الكفاءة مهمشة، وقد حلّت مكانها الواسطة، والقرابة، والانتماءات العشائرية، أو الاصطفافات الشخصية؟ ولأن الاختيار لم يكن مبنيًا على الرؤية والمصلحة العامة، بل على المحسوبيات والمناطقية، فتآكلت الثقة، واهتزّ الاستقرار الإداري، وغاب التخطيط الاستراتيجي.
الإصلاح، إذن، لا يبدأ بتغيير الأشخاص، بل بتغيير المنهج، ولا يتحقق بتجميل السطح والخطابات، بل بتطهير الجذور من كل ما يعطّل العدالة، ويقوّض الكفاءة، ويُفرغ مؤسسات الدولة من مضمونها الوطني ورسالتها التنموية. وكأنما الدولة، من خلال سلوكها وممارساتها، تقول ضِمنًا — دون أن تُفصح — إنها تُقدِّم المنصب لمن "يمون" على الناس، لا لمن "يخدمهم"، فتُسلّم مفاصل القرار والمواقع العامة لمن يعتلي الجاهات والمناسبات، لا لمن يعتلي منابر الكفاءة والقيم والمبادئ. وتُكافئ على الولاء الشخصي لا على العطاء الوطني، وتُكرّس عرفًا مقلقًا يُقصي أصحاب الكفاءة النزيهة، ويُبقي الأبواب مشرعة أمام دوائر النفوذ المغلقة من المتنفذين، فيُحتكر القرار، وتُختطف المواقع، ويُضيَّع ما تبقى من الأمل في إصلاح حقيقي يعيد الاعتبار لفكرة الدولة كمؤسسة عامة لا كملكية خاصة. إن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في غياب الكفاءة، بل في ترسيخ ثقافة الإقصاء والتوريث السياسي والإداري، وهي ثقافة تهدم روح المبادرة.
لقد آن الأوان لإعادة ترتيب البيت الداخلي، وإعادة تعريف العلاقة بين المواطن ودولته، لا على أساس التبعية، بل الشراكة، ولا على قاعدة التجمل السياسي، بل على المكاشفة والمصارحة، ولا على منطق التوريث السياسي والإقصاء، بل على عدالةٍ حقيقية تعيد للكرامة مقامها، والكفاءة إلى نصابها. وفي المقابل، نعم، للدولة حقٌّ على أبنائها: أن يصبروا إن صُدقوا، وأن يتحمّلوا إن شُوركوا، وأن يُغلّبوا المصلحة الوطنية إن عوملوا بإنصاف وعدل. فعندما يرى المواطن صدقًا وعدلًا وشراكة، تهدأ الخواطر وتعود الثقة. ولكي تستقيم هذه المعادلة، لا بد من أرضية صلبة تُبنى على عدالة ناجزة، وانتماء خالص، وتوزيع عادل للفرص، ومأسسة العلاقة بين الكفاءة والقرار. فالموقع العام يجب أن يكون تكليفًا لا تشريفًا، واستحقاقًا لا منحة، ومسؤوليةً لا غنيمة.
عندها فقط، يعلو صوت الأردني الأصيل من أعماق القلب والوجدان، ليقول بكل شموخ: نحن أبناء هذا الوطن، من شتى المنابت والأصول، نفتح عروقنا طواعية لتسري فيها حياة الأردن، وننقش أسماءنا على جذعه الوارف نقشَ المحبة والولاء والإيمان الراسخ بأن هذا الوطن يستحق أن يبقى، وسيبقى، شامخ الرأس، حر الإرادة، موحد الصف، عصيًّا على الانكسار، مهابًا في عيون أبنائه وأعدائه على حدٍّ سواء. فالأردن ليس طيفًا عابرًا في دفتر السياسة، بل هو عهدٌ مقدّس في أعناق الأوفياء، أن يظل أكبر من الخلاف، وأسمى من المصالح، وأبقى من كل الطارئين. رايته ستظل عالية، لأنه ليس مجرد حدود أو علم، بل فكرةٌ أزلية، وهويةٌ جامعة، ودولةٌ عصيةٌ على القهر إن حكمت بالعدل، ومنيعةٌ على السقوط إن أنصفت شعبها.