من براميل النفط إلى الذكاء الاصطناعي
د. صالح سليم الحموري
16-05-2025 09:39 PM
في مشهدٍ يجسّد التحول العميق الذي تشهده دولة الإمارات، لم تعد الصورة النمطية للخليج العربي تقتصر على براميل النفط وآبار الطاقة، بل أصبحت اليوم مرتبطة بمراكز الحوسبة العملاقة، والرقائق الذكية، وشبكات الابتكار العالمية. ويأتي الإعلان عن إنشاء "حرم الذكاء الاصطناعي" بقدرة 5 جيجاواط في أبوظبي ليجسد هذا التحول النوعي، ويشكل نقطة انعطاف استراتيجية في مسيرة الدولة نحو الريادة التكنولوجية العالمية.
هذا المشروع الطموح، الذي تم الإعلان عنه خلال زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى دولة الإمارات، يُعد الأكبر من نوعه خارج الولايات المتحدة في مجال البنية التحتية المخصصة لتقنيات الذكاء الاصطناعي. ويمتد الحرم الجديد على مساحة 10 أميال مربعة، ويعتمد مزيجًا ذكيًا من الطاقة النووية، والشمسية، والغازية لتشغيل عمليات حوسبة فائقة، في توازن يجمع بين الابتكار الرقمي والاستدامة البيئية.
وتقود هذه المبادرة شركة G42 الإماراتية، بالشراكة مع عدد من كبرى الشركات الأمريكية، بهدف توفير خدمات حوسبة بزمن انتقال منخفض (Low Latency) لما يقارب نصف سكان العالم، ضمن دائرة نصف قطرها 3,200 كيلومتر من أبوظبي. والأهم من ذلك، أن هذا الحرم لن يكون مجرد مركز بيانات، بل منظومة معرفية متكاملة، تضم مركزًا علميًا مخصصًا لتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ليكون بذلك منصة لإنتاج المعرفة لا مجرد مستهلك لها.
وفي السياق ذاته، أعلنت شركتا G42 الإماراتية و iGenius الإيطالية عن اتفاق للتعاون في تطوير كمبيوتر فائق (Supercomputer) يعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي في إيطاليا، ما يعكس اتساع نطاق الشراكات التقنية العابرة للحدود. ويأتي هذا التعاون ضمن إطار عمل أوسع تم الإعلان عنه خلال القمة الثنائية بين الإمارات وإيطاليا، والتي شهدت التزامًا إماراتيًا باستثمار 40 مليار دولار في الاقتصاد الإيطالي.
تندرج هذه المبادرات ضمن شراكة استراتيجية حديثة بين الإمارات والولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، تهدف إلى تسريع نمو تقنيات الذكاء الاصطناعي في إطار يعكس التزامًا سياسيًا واقتصاديًا مشتركًا بدعم الابتكار وتوجيهه. وتشمل هذه الشراكة اتفاقًا على استيراد أكثر من 500,000 شريحة ذكاء اصطناعي متقدمة سنويًا من شركة نفيديا (NVIDIA) ابتداءً من عام 2025، ما يؤكد أن الإمارات لم تعد مجرد سوق للتقنية، بل أصبحت شريكًا فاعلًا في صناعتها، ومساهمًا رئيسيًا في رسم ملامح مستقبلها.
إن الانتقال من اقتصاد قائم على "الموارد الطبيعية" إلى "اقتصاد مبني على البيانات والخوارزميات" لم يعد شعارًا نظريًا في دولة الإمارات، بل تحول إلى واقع استراتيجي مدعوم ببنية تحتية متقدمة، وتشريعات محفزة، وتحالفات دولية قوية. ويجسّد "حرم الذكاء الاصطناعي" هذا التحول بوضوح، إذ يمثل انتقالًا من الاعتماد على النفط إلى الاستثمار في العقول والبرمجيات الذكية.
لقد أثبتت الإمارات أنها لا تنتظر الفرص، بل تصنعها، ولا تكتفي بمتابعة الاتجاهات العالمية، بل تسعى إلى تشكيلها. ومع كل مشروع تكنولوجي جديد، تؤكد أنها تؤمن بأن المستقبل لا يُتنبأ به... بل يُبنى.
* صالح سليم الحموري
مستشار التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية