الصندوق الأسود(21)
"كفيت ووفيت" كلمة دارج استخدامها، وخصوصاً عندما تُقطع تذكرة الخروج من المؤسسات، سواء كانت مؤسسات عامة أو خاصة. يبدأ أحدهم بململة متاعه إيذاناً بالرحيل، وهي كلمة تختزل في كثير من الأحيان معاني الألم الشديد والجرح العميق الذي خلّفه حامل الأمتعة؛ تختزل خيبات أمل، وإنجازًا متدنيًا، وتخبطًا في القرارات، وإقصاءً أو تهميشًا للكفاءات، وتضييعًا للأمانة، وتناسياً لحقوق العباد. في أجواء احتفالية نقولها في وداع البعض، في مجتمعاتٍ غلب على شعوبها طغيان العاطفة والمشاعر، وخجل من ثقافة المساءلة والمحاسبة. والفارق أن العديد منهم يحمل أمتعته نظير مراجعة أداء دون مستوى الإنجاز، ولكننا نُصر أن تكون اللحظات الأخيرة لحظات مفعمة بالمشاعر والتقدير، متناسين فاتورة هذا الراحل خلال فترة المكوث.
شعوب يغلبها دغدغة المشاعر، تحمل ذاكرة السمك، وكأن علاقات العمل منظورها شخصي، لا تفقه أصول نشأة تلك العلاقات؛ فالأساس هو النفع العام والمصلحة العامة التي تجمعنا، لا مكان للولاءات القبلية أو العلاقات الشخصية. فالمصلحة العامة هي المعيار لبناء العلاقات وميزان قرب أو إبعاد الأشخاص، وهي التي تحدد مدة الإقامة أو إعلان تأشيرة الخروج. والمؤسف أننا نميل إلى تمجيد الأشخاص في وداعهم، نصنع لكل راحل منهم تمثال المجد والإنجازات، مهما كانت قراراتهم محمّلة بالضرر، أو سياساتهم مشوبة بالتقصير أو تجاهل الاحتياجات وحقوق العباد.
وفي كل مرة يغادر فيها حامل الأمتعة، نقفز سريعًا لطي الصفحة دون أن نقرأ ما في داخلها، وما له فيها، وما عليه. بلا مراجعة، ولا حساب، ولا حتى وضع علامة استفهام! يُراد للمؤسسات الحفاظ على سياق الذاكرة المؤقتة، ووضع النقطة وقلب الصفحة، ليكون ملف كل من حمل متاعه صندوقًا أسود له قفل ومفتاح لا يعمل. نُودّع ونصفّق ونقدّم الهدايا التذكارية لتكون عنوانًا يُحجب به عن المساءلة والامتثال.
ومما يزيد ألم الوطن، أن يُعالج الخطأ بخطأ أكبر، فسرعان ما يضع بعضهم أمتعته في أرضٍ أخرى، في رحلة ترانزيت لا هدنة فيها لمُحارِب، ولا مراجعة لأخطاء ارتُكبت، ولا غسل ثوب الذنوب إذا اقترِفت، ولا ردّ لمظالم وحقوق قد انتُهكت. يخرج من الباب الخلفي، ليدخل من الباب الأمامي، في دوامة ضعف مستدام، وغياب ثقافة المساءلة والامتثال. قد يذهب إلى منظمة أخرى، أو يتسلل إلى منصب يُدعى له، يحمل وزر الفشل تحت ستر المجاملة، ويُمنح موقعًا جديدًا ليُعاد تدوير الخسائر، دون سؤال ولا حساب.
ولأننا لا نملك رفاهية تكرار الفشل، فإن حماية المناصب من العبث تبدأ قبل شغلها، لا بعد مغادرتها. فكم من مقعد وُضع فيه من لا يُحسن الجلوس، وكم من قرار صدر ضرّ وما نفع، لأننا استبدلنا الجدارة بالترضيات، والكفاءة بالمجاملات. التدابير الوقائية لا تعني تزويق النصوص ولا تغليف النوايا، بل تعني أن يكون لكل منصب ميزان: يُوزن فيه السلوك والقرارات، وتُفصح فيه الذمم، ويُقاس فيه الأثر، ويُختبر فيه صاحب القرار قبل أن يُطلق العنان لحبر أقلامه. لا يجوز أن نغض الطرف عن فحص الكفاءة والاحترافية، ولا أن نستهين بالسيرة المهنية، أو نتجاوز الكفايات القيادية في لحظة تعيين. ومن تبوأ منصبًا دون تقييم، فقد زُجّ به إلى مقعد لا يملك أدواته. أما بعد التعيين، فإن الامتثال والمساءلة ليست خيارًا، بل التزام يتجدد عند كل توقيع، ومع كل قرار يُتخذ، وكل أثر يُترك من خلفه. لا تكفي الابتسامات في الاجتماعات، ولا البلاغة في الخطابات، بل لا بد من دفاتر تُراجع، وتواقيع يُسأل عنها، وأفعال تُوزن. والمؤسسات التي تمنح المناصب دون فحص، وتُجددها دون مراجعة، وتُودّع أصحابها دون محاسبة، إنما تكتب شهادتها بالضعف المؤسسي المستدام، وتدفع المجتمع نحو هاوية يراكمها الإهمال ولا يُنقذها التجميل.
الحوكمة ليست شعارًا يُرفع، ولا ندوة تُتلى، بل هي جوهر المؤسسية المستدامة. دع عنك إدارة الأمزجة، فليس مطلوبًا منك تجميع الإعجابات، بل مفروض عليك أن تنتزع حقوق الأوطان وتحفظ المقدرات. الكل مسؤول، وتحت القانون، مُساءل عن قراراته، وإنجازاته، وآثاره، وليجد جوابًا للأجيال القادمة عن قراراته المستدامة. فالمساءلة لا تسقط بالتقادم، ولا تتوقف عند المسمى الوظيفي الذي يغادره، وعقد المسؤولية لا ينقضي بذهاب المنصب، بل هو امتداد طبيعي للثقة التي مُنحت، وللموارد التي أُنفقت، وللكوادر التي انضوت تحت أمره وسلطانه.
في فلسفة الحوكمة، لا ينفصل مفهوم الخروج من الوظيفة عن مفهوم الأثر المستدام، ولا يمكن قبول استقالة دون مراجعة، ولا تقاعد دون تقييم، ولا إقالة دون محاسبة. والعدالة الحقيقية لا تكتفي بالنوايا، بل تبحث في النتائج، وتضع المصلحة العامة في قلب كل قرار.
وكم من صاحب قلب أبيض سطّر قرارات سوداء يوم قرّب بطانة السوء، وغفل عن دوره المطلوب، وظنّ أن منصبه دار قرار، ونسِيَ أنه في دار عبور. إنها أمانة الوظيفة، عقد اجتماعي بين الفرد والمُشغّل. ومن غادر قبل أن يُفتح صندوق قراراته للسؤال، فهو يغادر قبل أن يُستوفى الحساب، وحينها نضع مسوّغًا لكل متدهور أن يُقامر ويُقصّر في ساحة لا حساب فيها ولا سؤال.
لسنا بهذا الحديث دعاة جحود أو نكران، ولا ضد التقدير لأصحاب العرفان، لكننا حُرّاس للحقوق والمقدرات. فحبّ الأوطان ليس مجرد ادّعاء، بل يُبنى على الحقيقة. ولا حق يعلو فوق حق الوطن، ولا مجد يعلو فوق مجده. ونحن نشدّ على يد كل من عمل بإخلاص، فليُشكر علنًا وندعُ له في ظهر الغيب، وأما من أضر عمدًا أو جهلًا، فليُحاسب من أجل التحسين لا الانتقام. واعلموا أن المؤسسات التي تخجل من محاسبة مسؤوليها إنما هي مؤسسات تؤجل الانهيار، لا تحمي الإنجازات، وحتماً ستحاسبها الأجيال.
* د. كفاية عبدالله/ اختصاصي التطوير المؤسسي
(Kifaya2020@gmail.com)