هل خسر الأردن فرصة استراتيجية ؟
د.م. أمجد الشباطات
19-05-2025 05:23 PM
في خطوة تُعد من أبرز مفاصل الأمن المائي في الأردن، قررت الحكومة إحالة تنفيذ مشروع الناقل الوطني لتحلية ونقل المياه من العقبة إلى عمان إلى تحالف أجنبي، بدلاً من تأسيس شركة وطنية تتولى هذه المهمة. ورغم أهمية المشروع الحيوية، فإن القرار يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول ما إذا كان الأردن قد فوّت على نفسه فرصة استراتيجية كان يمكن أن تُحدث فارقًا كبيرًا على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية، الفنية، والسيادية.
كان من الممكن، بل من المنطقي، أن تُنشئ الحكومة شركة وطنية لهذا المشروع، بالشراكة مع القطاع الخاص المحلي، وصناديق الاستثمار، والبنوك الوطنية، وحتى مستثمرين مغتربين. شركة كهذه لم تكن ستنفذ المشروع فحسب، بل كانت ستؤسس لمرحلة جديدة من التمكين الاقتصادي والسيادي في قطاع المياه. المشروع، بحجمه وعوائده، كان قادرًا على أن يكون محفزًا لتحريك السوق، وتكوين نموذج وطني في إدارة الموارد الحيوية، يشبه النماذج الناجحة في قطاعات الطاقة المتجددة والاتصالات. تأسيس الشركة كان سيضمن بقاء الأرباح داخل الدورة الاقتصادية المحلية، ويوفر أدوات تمويل مستدامة مستقبلية لمشاريع أخرى، بدلًا من رهن التحكم والتشغيل لشركات أجنبية لفترة تمتد لعقود.
هذا القرار، الذي يُبرر غالبًا بضيق الوقت أو ضعف الإمكانيات، جاء رغم وجود كفاءات وطنية أردنية بخبرات دولية كان يمكن أن تقدم خبراتها على طبق من ذهب، وتشارك في تأسيس نموذج وطني تنفيذي وتشغيلي متكامل.
ولكي لا يُساء فهم هذا الطرح، فإن الاعتراف بواقع الأردن المائي المؤلم ضروري. فالأردن من أفقر دول العالم مائيًا، ويواجه عجزًا مائيًا سنويًا متصاعدًا، وهو ما يجعل تنفيذ المشروع ضرورة استراتيجية لا تقبل التأجيل. لكن هذه الحقيقة، رغم قسوتها، لا تبرر استبعاد فكرة الشركة الوطنية، بل على العكس، قد تكون دافعًا لإنجاز المشروع بروح وطنية مسؤولة، وضمن نموذج تشاركي يجمع بين الكفاءة والالتزام، ويُبنى على أسس علمية واقتصادية رشيدة. فالتنفيذ من خلال شركة وطنية لا يعني بالضرورة التأخير أو المغامرة، بل قد يكون فرصة لتقديم نموذج وطني مختلف قائم على الشراكة والاستثمار طويل الأجل.
ومن المهم أيضًا الإشارة إلى أن التحالف الأجنبي المنفذ حصل على قرض مجمّع من بنوك أردنية بقيمة 770 مليون دولار لتمويل المشروع، بحسب ما أُعلن رسميًا. وإلى جانب ذلك، تعهدت الولايات المتحدة الأمريكية بدعم قدره 700 مليون دولار، مقسم إلى 300 مليون كمنح و400 مليون كقروض استثمارية ميسّرة. كما أُعلن عن تعهدات مالية أخرى من جهات دولية متعددة، ليبلغ إجمالي التعهدات التمويلية للمشروع حوالي 1.83 مليار دولار. هذه الأرقام تعني أن معظم مصادر التمويل كانت متاحة من داخل الأردن أو من داعميه، وهو ما يدفع للتساؤل: إذا توفرت القروض والمنح، فلماذا لم تُنشأ شركة وطنية لتكون هي الجهة المنفذة والمستفيدة؟ ولماذا ذهبت هذه التدفقات إلى شركة أجنبية ستحتفظ بعائدات المشروع لعقود قبل أن تعيده للدولة؟
إسناد التنفيذ لشركات أجنبية يعني أن الأرباح الناتجة عن المشروع، والتي يُتوقع أن تكون مستمرة لعقود، ستتجه إلى الخارج، مما يحرم الاقتصاد الوطني من دورة مالية كانت ستنشط قطاعات عديدة لو أُنشئت شركة وطنية. كما أن نموذج (BOT) المستخدم في الاتفاقية، والذي يمنح الشركات حق تشغيل المشروع لعشرات السنين قبل أن تعود ملكيته للدولة، يضعف من قدرة الأردن على الاستفادة الفورية من المشروع على صعيد الإيرادات والتشغيل الذاتي.
وعلى الصعيد الاجتماعي والفني، فإن غياب شركة وطنية عن تنفيذ مشروع بهذا الحجم يترتب عليه حرمان الكفاءات الأردنية من الانخراط في بيئة عمل متقدمة تتيح لها اكتساب خبرات في مجالات التحلية والنقل والتشغيل والصيانة الحديثة. مثل هذه المشاريع تمثل مختبرات حقيقية لبناء القدرات المحلية، وتُعد من أهم أدوات تمكين المهندسين والفنيين، وهو ما فُقد بإسناد المشروع لشركات أجنبية ستعتمد غالبًا على فرقها الفنية الخاصة أو شركات متعاونة معها، في حين ستقتصر المشاركة الأردنية غالبًا على أعمال غير تخصصية.
أما من الناحية السيادية، فإن منح التشغيل والإدارة لجهات أجنبية في مشروع بهذا الحجم ولفترة طويلة يقلل من فرص بناء استقلالية تقنية وتشغيلية وطنية في قطاع المياه. وعلى الرغم من أن المشروع يخضع لتصميم ومواصفات هندسية واضحة، إلا أن غياب الدور المحلي المباشر في التنفيذ والإدارة منذ البداية قد يُبقي الأردن معتمدًا تقنيًا على خبرات خارجية لفترة أطول مما ينبغي، وهو ما يتناقض مع هدف بناء قدرات وطنية استراتيجية في هذا القطاع الحيوي.
في المجمل، كان بإمكان الأردن، رغم التحديات، أن يؤسس شركة وطنية بالشراكة مع القطاع الخاص والمستثمرين المحليين لتنفيذ هذا المشروع التاريخي، الأمر الذي كان سيعزز الاقتصاد الوطني، ويفتح مجالات لتشغيل العقول والخبرات الأردنية، ويضع الأساس لتأسيس صناعة وطنية في مجال تحلية المياه والطاقة المتجددة. ومع أن المشروع لا يزال قيد التنفيذ، فإن ما فُقد في مساره من فرص سيبقى شاهداً على ضرورة مراجعة نماذج الشراكة المعتمدة، وإعادة التفكير في مفهوم الاعتماد على الذات في أكثر الملفات حيويةً واستراتيجية.