درس الاستقلال .. هوية أردنية كتبتها التضحيات وحمتها القيادة
د. ثابت النابلسي
24-05-2025 09:00 PM
منذ أكثر من مئة عام، وُلدت الهوية الأردنية الهاشمية من رحم التحديات، لا من تقسيمات استعمارية ولا من موائد توزيع الغنائم، بل من صبر شعب، وإرادة قيادة، ومن مشروع قومي حمله الهاشميون منذ انطلاق الثورة العربية الكبرى، إيمانًا منهم بأن الكرامة لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الاستقلال لا يُكتب بالحبر بل يُصاغ بالدم.
لم يكن تأسيس الأردن وليد سقوط الإمبراطورية العثمانية، ولا من نتائج معاهدة هنا أو قرار دولي هناك، بل هو ثمرة لرؤية عروبية جسدها الملك المؤسس عبدالله الأول بن الحسين، الذي سار على نهج والده الشريف الحسين بن علي، مؤمنًا بأن شرق الأردن يمكن أن يكون نواة لدولة عربية ذات سيادة، تقف على قدميها، وتستمد شرعيتها من شعبها، لا من رضا المستعمر.
حين وُلدت إمارة شرق الأردن عام 1921، كانت مجرد مساحة جغرافية محدودة الموارد، منهكة من آثار الحروب، وتحت وصاية الانتداب البريطاني، لكن ما امتلكته كان أغلى من كل الموارد: الإرادة. فخلال ربع قرن، واجه الأردنيون شتى أشكال التحديات السياسية والاقتصادية، وراكموا مشروعهم الوطني خطوة بخطوة، حتى جاء يوم 25 أيار 1946، ليُعلن فيه عن الاستقلال الرسمي للمملكة الأردنية الهاشمية، بقيادة الملك عبدالله الأول، ذلك الاستقلال الذي لم يكن إعلانًا سياسيًا بقدر ما كان تتويجًا لصبر وصمود استمر لعقود.
من بين عشرات القصص التي تحفظها الذاكرة الوطنية، تظل سيرة الشهيد وصفي التل واحدة من أبرز الشواهد على أن الاستقلال لا يُصان بالكلام، بل بالتضحية.
كان وصفي يرى في الأردن كيانًا مستقلاً لا يتبع أحدًا، وكان يعرف أن الكرامة الوطنية لا تُشترى. فكان القرار أن يدفع حياته ثمنًا للموقف، لا للمجاملة، لقد اغتيل في القاهرة عام 1971، لكن دمه بقي صدىً في أذن كل من يُفكر أن السيادة قضية قابلة للتفاوض.
الاستقلال لم يكن ليصمد، لولا حكمة الملوك الهاشميين الذين تعاقبوا على حمل الراية.
ففي عام 1956، اتخذ الملك الحسين بن طلال قرارًا تاريخيًا بطرد غلوب باشا من قيادة الجيش العربي، مُعلنًا السيادة الكاملة على المؤسسة العسكرية، في لحظة عزّ وقف فيها الأردن بوجه القوى الكبرى، وقال: “لا كرامة لشعب جيشه بيد غيره.”
وفي عام 1970، واجه الأردن محاولة خطيرة لزعزعة كيانه الداخلي فيما عُرف بأحداث أيلول.
نعم كان قرار القيادة واضحًا ، الدولة أولًا، ولا سلاح فوق سلاح الجيش العربي ، عندها خرج الأردن من تلك الأزمة أكثر تماسكًا، ليواصل مسيرة الدولة المستقلة، بدماء أبنائها وشرعية قيادتها.
ما يواجهه الأردن اليوم ليس احتلالًا عسكريًا، بل احتلال ناعم يلبس ثوب العولمة والتأثير الثقافي وتفكيك الهوية الوطنية. وهو ما يُحتّم على الأجيال الجديدة أن تقرأ تاريخ الاستقلال لا كحدث، بل كدرس مستمر، وأن تدرك أن الوطن الذي تسكنه الحريات والكرامة لم يكن منحة، بل هو حصيلة تضحيات لا تُعد.
قال جلالة الملك عبدالله الثاني: “الأردن لا يركع إلا لله، ومواقفنا ثابتة لا تتغير، لأننا لا نساوم على المبادئ.” وهو بذلك يُعيد التأكيد على أن معركة الاستقلال لم تنتهِ، بل تتجدد في كل موقف، وكل كلمة، وكل قرار.
لكل شاب وفتاة، لكل طالب ومعلم، لكل من وُلد بعد الاستقلال: هذا الوطن لم يكن سهلًا، وهذه الراية لم تُرفع بلا ثمن. فحافظوا عليها. لا تفرطوا بميراث آبائكم وأجدادكم. واعلموا أن من لا يعرف تاريخه، لا يستطيع أن يحمي مستقبله.
إن استقلال الأردن هو مدرسة في الوطنية، تقرأها الأجيال وترويها الأمهات، ويكتبها الهاشميون في كل موقف شجاع، ويصونها الأردنيون كل يوم.
كل عام والاستقلال حيّ فينا،
كل عام والأردن أقوى بشعبه، وأصدق بقيادته، وأوفى برسالته.
حفظ الله الأردن، وقيادته الهاشمية، وجيشه المصطفوي، وعاش الشباب الأردني حارس الراية .