استقلالنا عهدٌ لا يُنسى… ومسؤولية لا تنتهي
راكان نواف الشوبكي
25-05-2025 11:37 PM
في الخامس والعشرين من أيار، لا تمر الساعات كما تمر في سائر الأيام، بل تتوقف عقارب القلب عند لحظة ميلاد الوطن، وتهمس الجبال في كل شبر من أرض الأردن: “هنا، استقلت الإرادة، وهنا، كتبت الحرية بدم لا يزال ساخناً حتى اليوم.”
في مثل هذا اليوم من عام 1946، تنفس الأردن أول أنفاس السيادة، وخرج من ظلال الانتداب ليقف في الضوء وحده، مرفوع الرأس، مكتمل الهيبة، تسنده عزيمة شعب آمن بأن الوطن لا يمنح، بل ينتزع من أنياب التاريخ، ويصان بأهداب العيون.
كان الاستقلال ثمرة نضال شاق، وسنوات من الكفاح الصامت، حيث لم يكن للأردنيين من سلاح سوى الإيمان بالأرض، ولا من درع سوى الكرامة. منذ اللحظة الأولى، كان الأردني مستعداً أن يقدم عمره قرباناً لوطنه. في معارك السموع واللطرون والقدس وباب الواد، وفي معركة الكرامة، لم يقاتل الأردني فقط ليصد العدوان، بل ليثبت أن الكرامة هنا ليست اسماً على خريطة، بل دماً يجري في العروق.
وفي كل موقع، وعلى كل جبهة، كان هناك أردني يقف، لا ليحرس الحدود فقط، بل ليحرس التاريخ.
بطولات الأردنيين لم تكتب بالحبر، بل بالنار. جندي يرابط في الصحراء، وشهيد يسكن تراب الوطن، وأم تصنع من وجعها سلاحاً للأمل. التضحية هنا ليست لحظة، بل سلوك حياة. الأردني لا يتراجع حين يطلب، ولا يتأخر حين يُنادى. كانت دماؤهم وقود الاستقلال، وكانت تضحياتهم جسوراً نعبر فوقها نحو وطنٍ نريده كما نحلم: حراً، عزيزاً، شامخاً.
لكن الاستقلال ليس خط نهاية، بل بداية لمسيرة طويلة من البناء. نهضة الأردن لم تولد في القصور، بل في المدارس، والمزارع، والمستشفيات. تطور الوطن كان أشبه بشجرة نبتت في أرض صخرية، لكنها شقت طريقها نحو السماء، لأن من زرعوها آمنوا بها.
من دولة صغيرة بإمكانات متواضعة، أصبح الأردن اليوم منارة في التعليم، وعنواناً في الطب، ورمزاً في الدبلوماسية. لا نمتلك الثروات، لكننا نمتلك كنزاً اسمه "الإنسان الأردني" ذاك الذي إذا ضاق عليه العالم، وسع الحلم داخله حتى يصير وطناً.
وفي قلب هذه النهضة، سكن الأمن وتحقق. فبينما احترقت العديد من العواصم، ظلت عمّان تنام على ضوء المصابيح لا على هدير المدافع. الأمن ليس صدفة، بل ثمرة إخلاص عميق، ويقظة لا تنام، وجيش وأجهزة أمنية أقسمت أن يبقى الوطن في عيونها، لا خلفها.
أن تعيش في وطن آمن، يعني أن هناك من اختار أن يسهر كي تنام، أن يقاتل كي لا تقاتل، أن يضحي كي تزرع وتعلم وتبدع.
وهذا الأمن لم يكن ليثمر، لولا الحرص العميق الذي يسكن الأردني على وطنه. في عيون الأردني ترى شعلة المسؤولية، في صوته تسمع نبض الأرض. هذا الانتماء ليس شعاراً، بل جذرٌ في الروح. نحن لا نحمل الوطن في الجيب، بل نحمله في الذاكرة والدم.
الهوية الوطنية ليست بطاقة، بل حكاية أجداد، ولغة أمهات، وتاريخ قُرى، وأغاني السهول، وملامح البدوي والحضري، والفلاح والعامل، والمغترب الذي لا ينام إلا على صوت فيروز يقول: “رجعت الشتوية يا أردن…”
لكن الحفاظ على الاستقلال لا يتحقق بالاحتفال وحده، بل بالعمل على جعل الاستقلال فكرا ًمستداماً. أن نتحرر من التبعية، وأن نعتمد على ذاتنا، أن نزرع لنأكل، ونصنع لنلبس، ونفكر لنبتكر، ونتطور لنحيا بكرامة. يدوم الاستقلال حين نكون قادرين على الوقوف وحدنا إذا وقف العالم ضدنا، وأن نستند على أنفسنا إذا انهارت الأكتاف من حولنا.
لنحافظ على استقلالنا كما يحافظ المرء على روحه، لنغرس في الجيل القادم أن الوطن لا يصان بالشعارات، بل بالعمل، والوعي، والأمانة، والتعليم، والعدالة، والاتقان. وأن الأردن، رغم كل الظروف، وطن لا يقبل الانحناء، لأنه خلق ليعلو، وليبقى.
في يوم الاستقلال التاسع والسبعين، يا وطن الكرامة، نكتب لك من قلوبنا قبل أقلامنا:
دمت حراً كما أردناك، ودمت لنا داراً لا نبدلها، وهوية لا نساوم عليها.
كل عام والأردن بخير،
وكل عام وشعبه وجيشه وقيادته بألف كرامة ورفعة.