عن مزاعم النضال واستمرار الوهم
جمال القيسي
26-05-2025 12:34 PM
في لحظة سياسية فارقة تعيد الدولة الأردنية فيها بناء منظومتها الحزبية على أسس دستورية جديدة، وترسم ملامح التحول نحو مشهد مؤسسي يقوم على التعددية والبرامجية والمساءلة، تتسلل إلى الواجهة أصوات نشاز، تروّج لماضٍ مستهلك وتمنع تقدم الحاضر. فئة تدّعي الاحتكار التاريخي للشرعية السياسية، وتختبئ خلف شعارات "النضال" و"الخبرة السياسية"، بينما تمارس عمليًا دور المعطّل لا الشريك، والهادم لا المؤسس.
ولأن اللحظة تتطلب وضوحًا في الاصطفاف بين من يريد ترسيخ دولة المؤسسات، ومن يحنّ إلى منطق الصفقات والولاءات؛ فإن الصمت لم يعد ممكنًا. لا بد من تسمية المعيقات كما هي، لا بوصفها اختلافات مشروعة، بل كعقبات بنيوية تمارس التعطيل باسم "الخبرة"، وتفرض الوهم مكان الفعل، والارتداد بدل التقدم.
وسط هذا المشهد، تظهر فئة من السياسيين الحزبيين اسما، المتقاعدين واقعا، يتشدقون بتاريخ مزعوم مشكوك فيه، ويصوّرون أنفسهم كحراس للمشهد، فيما هم في الواقع أحد أبرز معوقات التحول الديمقراطي المنشود. لا يملكون رؤية وطنية ناضجة، ولا مشروعًا إصلاحيًا واضح المعالم، يخلخلون الصفوف بصخب لا يسنده منطق أو مضمون، مدفوعين بوهم أنهم ما زالوا في قلب المرحلة، فيما المرحلة نفسها تجاوزتهم منذ زمن.
بعض هؤلاء صعدوا لا لأنهم امتلكوا كفاءة أو قاعدة شعبية، بل لأن الدولة، في لحظة أمنية حرجة، صنعتهم بأدواتها؛ منحتهم مناصب سياسية مقابل خدمات غير سياسية، فجعلت منهم نوابًا بلا امتداد أو قبول شعبي حقيقي، ووزراء بلا خطط ولا رؤيا، وأعيانًا بلا رأي مؤثر. كانوا أدوات ضبط إيقاع، لا أدوات إصلاح دائم. ولما تجاوزتهم الدولة نفسها، ظلوا يتصرفون كما لو أن بقاءهم هو الضرورة الوطنية القصوى، فيما الواقع السياسي تخطّى أدوارهم وانفتح على حاجات أكثر عمقًا ومشاركة.
الأدهى أن هؤلاء لا يعترفون بأي منجز حزبي جديد، بل يزدادون عدوانية كلما تقدّمت الأحزاب الجادة بخطوة إلى الأمام في التنظيم والخطاب والحضور. يشنّون معاركهم الصغيرة ضد كل ما لا يشبههم، ولا يشبه رتابة أدوارهم القديمة. وهم في هذا لا يتحركون وحدهم، بل يوظفون مرتزقة للترويج لماضيهم النضالي المزعوم؛ يجندون ناطقين بسيرتهم، معلنين وغير معلنين، ومحاورين بالوكالة، يمارسون التخريب بحرفية التكسب، ويقودون حملات التشكيك تحت يافطة الدفاع عن "المناضلين" و"أهل الخبرة".. هي ذاتها الخبرة التي لم تُنتج سوى التراجع والخيبة في كل مضمار وتجربة خاضوها.
يظن هؤلاء أن الوعي العام لا يفرّق بين من يملك بصيرة سياسية ومن يكرّر الشعارات البائسة. لكن الحقيقة تتضح مع الوقت كي تكشف أنهم بلا وزن سياسي، ولا شعور وطني حقيقي، ولا حتى وعي ضمن الحد الأدنى المفترض بالسياسي. مجرد صدى خافت لماضٍ مهتز، يعتاش على فتات نفوذ سابق، وتحت عباءة مناصب غابرة ولت حتى باتوا في حاجة ماسة لمن يخوض الكلام بالنيابة عنهم.
ولأن الظاهرة لا تقتصر على السياق المحلي، فقد شهدت دول غربية ديمقراطية تحديات مشابهة. ففي فرنسا، كثيرًا ما واجهت الأحزاب التقليدية صعود قوى سياسية جديدة بسبب عجزها عن التجدد، كما حدث مع انهيار الحزب الاشتراكي أمام صعود ماكرون وحركته. وفي بريطانيا، دفعت الأحزاب العتيقة ثمن تجاهل التغيير، مما أفسح المجال لخطابات أكثر جرأة وارتباطًا بالواقع الجديد. دروس تُظهر أن من لم يتكيّف مع التحولات السياسية، يندثر حتى في أعرق الديمقراطيات، وكذلك نستحضر تجارب شبيهة. في جنوب أفريقيا، بعد نهاية الأبارتايد، حين حاول بعض رموز "النضال القديم" الهيمنة على المسار الديمقراطي، لكنهم انتهوا إلى العزلة. وفي تونس، بعد الثورة، فقد أعاقت نخب تقليدية المسار الانتقالي، لأنها لم تستوعب قواعد اللعبة الجديدة التي لا تعترف بألقاب الأمس. وما أشبه اليوم بالأمس، حين يصرّ بعض الفاعلين في المشهد الأردني على تكرار دور لم يعد صالحًا للتداول.
التاريخ لا يمنح أحدًا صك غفران دائم، ولا يضمن الحصانة من المحاسبة أو النسيان. وما من عائق يفرمل عجلة الإصلاح الحزبي في الأردن أكثر من هؤلاء. فهم ليسوا بناة مؤسسات بل أدوات تخريب شخصي ممنهج. يرفعون شعار المشاركة، لكنهم يخشون التنظيم الحقيقي، ويتحدثون عن الديمقراطية، لكنهم يرتعدون أمام المساءلة والمؤسسية.
الصمت عن هذه الفئة ليس حيادًا، بل تواطؤ ضمني مع الرداءة، وسماح لها بخنق العمل الحزبي الجاد. آن الأوان أن يُقال بوضوح: إنهم صفحة طُويت من كتاب السياسة الأردنية. لا يجوز استمرار منحهم صفة الفاعلين وهم دون الحد الأدنى من الأهلية الفكرية أو النضوج السياسي. الإصلاح لا يحتاج لمن يحتكر الماضي، بل لمن يملك أدوات البناء ويخاطب المستقبل بلغة واقعية وشجاعة.
ولهذا، فإن دعم الأحزاب الجادة، والتفاف المواطنين حول المشاريع السياسية المبدعة، لم يعد فائض رغبة نخبوية، بل ضرورة وطنية لإنقاذ المسار، وتثبيت المعنى الحقيقي للعمل العام. فالمسألة لم تعد خلافًا بين مدارس أو تيارات، بل باتت صراعًا بين من يؤمن بالمؤسسية والتجديد، ومن يصرّ على إبقاء السياسة رهينة للحنين والوهم، والخطاب أسيرًا للشخصنة والأنا المتضخمة، والمشهد رهينًا للفراغ.
إن مستقبل الحياة الحزبية في الأردن لن يُكتب تحت ظلال الذكريات، ولا في كواليس المناصب المستهلكة، بل يُصاغ اليوم على يد من يملكون الشجاعة للقطع مع الخواء، والجرأة على إنتاج أدوات جديدة للفعل السياسي. الإصلاح لا ينتظر المترددين، ولا ينحني أمام من يستقوون بأسمائهم أو بمزاعمهم النضالية. هو مسار شاق، لكنه ممكن، ويستحق أن نخوضه بكل وعي ومسؤولية.
لقد آن الأوان أن نقولها بوضوح: لا إصلاح سياسي بلا تجديد النخب، ولا تجديد بلا فرز حقيقي بين من يريدون بناء الدولة المدنية الحديثة، وبين من يتمنون بقاءها معلّقة بين التاريخ والركود. ومن لم يستوعب أن اللحظة قد تغيّرت، لن يكون جزءًا من القادم، بل سيظل مقيّدًا بما مضى، حتى يسقط من ذاكرة الفعل.