من القوتلي إلى الشرع: الزعامة بين رماد الثورة وتحولات النظام العالمي
م. عمر الشرمان
29-05-2025 02:21 PM
في خضم تقلبات التاريخ وتحولات النظام العالمي، تبقى سوريا واحدة من أكثر البلدان تأثراً بلعبة المصالح الدولية والإقليمية. على مدار قرن من الزمن، ولدت في هذا البلد زعامات سياسية كانت تعبيرًا عن نبض الثورة وتحديات الدولة، من شكري القوتلي الذي حمل لواء الاستقلال وسط أتون الاستعمار، إلى أحمد الشرع الذي يحاول اليوم إعادة رسم ملامح سوريا بعد أعوام من الحرب والتدمير. هذا المقال يسعى إلى قراءة معمقة لمسيرة الزعامة السورية عبر هاتين الشخصيتين، مستعرضًا كيف تحددت شرعيتهم، وكيف يتعاملون مع بيئات سياسية متغيرة، وما الدروس التي يمكن أن نستخلصها من تجربتيهما في سياق تحولات الشرق الأوسط.
وفي لحظات التحول الجذري التي تمر بها الأمم، تظهر قامات سياسية لا تصنعها البيروقراطية، بل تلدها النار ولا تلدها القصور. شكري القوتلي، أول رئيس لسوريا المستقلة، وأحمد الشرع، الرئيس السوري الحالي، يقفان على طرفي تاريخ طويل تفصل بينهما ثمانون عامًا من التحولات، لكن بين تجربتيهما الكثير من عناصر التشابه، من حيث النشأة النضالية، وطبيعة الشرعية، وتعقيدات المرحلة، ومركزية سوريا في لعبة المحاور الإقليمية والدولية.
كلا الرجلين خرج من رحم النضال. القوتلي وُلد من معارك الكتلة الوطنية ضد الانتداب الفرنسي، وذاق مرارة السجن والمنفى، وصعد إلى سدة الحكم في لحظة نادرة من التوازن بين الشرعية الشعبية والدعم العربي. أحمد الشرع، من جهة أخرى، جاء من معسكر مختلف تمامًا؛ قائد فصيل مقاوم قاتل النظام لعقد كامل، وتحول إلى رمز لإعادة إنتاج سوريا لا من استعمار خارجي هذه المرة، بل من نظام محلي حوّل البلاد إلى أنقاض. كلاهما جاء من خارج بنية الدولة العميقة، مدفوعين بشرعية نضالية لا تُمنح بل تُنتزع.
لم تكن الزعامة لكلا الرجلين مجرّد مكافأة على النضال، بل امتحانًا قاسيًا في الانتقال من الثورة إلى الدولة، من صوت البندقية إلى لغة القانون، من الخنادق إلى القصور، ومن الهتاف إلى القرار. القوتلي واجه تحديًا كبيرًا في بناء مؤسسات الدولة الوليدة، وسط زلازل الانقلابات العسكرية، وفوضى التجاذبات بين مشاريع الوحدة والانفصال. أحمد الشرع يجد نفسه في مشهد أكثر تعقيدًا: دولة ممزقة، وبنية أمنية مدمرة، واقتصاد منكوب، لكن في المقابل أمامه فرصة نادرة لإعادة بناء سوريا من الصفر، وفق رؤية حديثة وشاملة، تستفيد من أخطاء ما قبل الحرب، وتؤسس لشرعية جديدة أكثر رسوخًا وعمقًا.
تبدو المرحلة الحالية في سوريا وكأنها تتجه نحو إعادة ضبط شاملة للمشهد، حيث تُبذل جهود سياسية وأمنية إقليمية ودولية معقدة لإعادة دمج دمشق في الخارطة الجديدة للشرق الأوسط. ويبدو أن هذه الجهود تراهن على شخصيات متعددة، كلٌ منها يمثل تيارًا أو احتمالًا سياسيًا، من بينها مناف طلاس، الذي تشير بعض التسريبات إلى فتح قنوات غير معلنة معه من قبل واشنطن.
في هذا السياق، يظهر أحمد الشرع ليس كلاعب في صفقةٍ دولية، بل كفاعل سياسي وطني يتحرك ضمن حقل ألغام إقليمي، واضعًا في أولوياته الحفاظ على وحدة القرار السوري وشرعية الدولة. أما مسألة التطبيع، فهي جزء من التحديات الموروثة، حيث قد يسعى بعض الأطراف، في الداخل والخارج، إلى تسويق اتفاقات مسبقة تفرض أمرًا واقعًا، بهدف تقييد خيارات القيادة الجديدة وإلزامها بمسارات لم تكن من صنعها. الشرع، في هذه الحالة، لا يعكس دور منفذٍ لإملاءات، بل هو أمام اختبار في كيفية التعامل مع تركة ثقيلة، بذكاء سياسي يراعي التوازن بين المبادئ والسياسات.
أن العامل الإقليمي لم يكن يومًا ثانويًا في المشهد السوري. القوتلي أدرك باكرًا أن شرعية سوريا لا تُبنى فقط في دمشق، بل تتنفس من الرياض. فكانت علاقته بالملك عبد العزيز ذات أهمية استراتيجية، تُوّجت بدعم سياسي ومالي ساعده على ترسيخ حكمه. المشهد يتكرر اليوم مع أحمد الشرع، الذي جعل من الرياض أولى محطاته الخارجية بعد توليه الرئاسة، والتقى هناك بالرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب في زيارة مفاجئة حملت أبعادًا عميقة، إذ لم تكن مجرد مصافحة رمزية، بل إعلان ضمني ببدء مرحلة جديدة من العلاقة بين دمشق وواشنطن. فالزيارة أعقبتها مباشرة قرارات أمريكية برفع العقوبات عن سوريا بشكل جزئي، وفتح الباب أمام استثمارات خليجية مشروطة، مما عنى أن الملف السوري أُخرج من العزلة الدولية، ليُعاد دمجه ضمن صياغة الشرق الأوسط الجديد.
لكن الشرع لا يتحرك فقط في فضاء العلاقات العربية الأمريكية. فإلى جانبه، تتبدل خارطة القوى الإقليمية بشكل غير مسبوق. تركيا، التي كانت لاعبًا مباشرًا في الحرب السورية بدعمها للفصائل المعارضة، تعود اليوم لتلعب دورًا جديدًا: دور الوسيط المتعدد المصالح، الباحث عن استقرار حدودي وتطبيع اقتصادي. أنقرة تدرك أن زمن التصعيد انتهى، وزمن الترتيبات بدأ، والشرع، في المقابل، يتعامل مع تركيا ببراغماتية ذكية، تراعي مصالحها الأمنية وتوظف موقعها الجغرافي دون السقوط في فخ المحاور القديمة.
وفي المقابل، تشهد المنطقة انهيار ما كان يُعرف بوحدة "الساحات المقاومة". المحور الإيراني، الذي لطالما وظّف دمشق كجزء من امتداد نفوذه من طهران إلى بيروت، بدأ بالتآكل الواضح. حزب الله لم يعد بالقوة ذاتها، غارق في أزمات داخلية لبنانية متفاقمة، ومثقل بمواجهات محدودة على حدود الجنوب. إيران، من جهتها، تخوض معارك وجودية داخلية وخارجية، من الاقتصاد إلى البرنامج النووي، ومن الحرس الثوري إلى صراعات الجيل الجديد. الشرع، وهو يدرك هذا التحول، ينسحب بهدوء من وصاية "المقاومة القديمة"، نحو تحالفات أكثر توازنًا وأكثر مراعاة للمصالح الوطنية السورية.
اللافت أكثر أن الدور الإسرائيلي في سوريا لم يعد فقط أمنيًا، بل بدأ يتخذ أبعادًا مجتمعية. فالتقارير الأخيرة تؤكد انخراط تل أبيب بشكل غير مباشر في دعم شبكات درزية داخل جنوب سوريا، مستفيدة من تراجع حضور الدولة المركزية، ومحاولة منها لاستغلال الهويات المذهبية لصياغة نوع جديد من "السلام البارد". الشرع يدرك خطورة هذا المسار، ويتعامل معه بحذر مزدوج: حماية وحدة الأرض من جهة، وضمان عدم الدخول في مواجهات شاملة من جهة أخرى، لأن معركته الآن هي إعادة بناء الدولة، لا استنزافها في جبهات هامشية.
في قلب هذه الفوضى الإقليمية، يتحرك أحمد الشرع في لحظة عالمية فارقة. نحن لسنا فقط أمام ما بعد الحرب السورية، بل أمام ما بعد النظام العالمي ذاته. التوازنات تتغير، الأحلاف تتشقق، والشرق الأوسط يعاد ترسيمه بموجب معادلة القوة لا المواثيق. وإذا كان شكري القوتلي قد عانى من عبء الحرب الباردة، وانتهى إلى السقوط بين كماشتي الانقلابات والتحالفات، فإن الشرع يمتلك فرصة نادرة لتفادي الأخطاء ذاتها، شرط أن يبني شرعيته على المؤسسات لا الكاريزما، وعلى الدستور لا التفاهمات الضمنية، وأن يوازن بين الداخل والخارج بحكمة واقعية تضمن استقرار سوريا وتحفظ مصالحها في محيطها المتغير.
أن تجربة الزعامة السورية بين شكري القوتلي وأحمد الشرع تحمل دروسًا هامة في صيرورة الدولة والسياسة في الشرق الأوسط. من معارك الاستقلال إلى معارك إعادة البناء، تبقى سوريا مختبرًا حقيقيًا لقوة الزعامة الوطنية التي تعرف كيف توازن بين التاريخ والمستقبل، بين المبادئ والواقعية، بين الطموح والإمكان. في النهاية، إن نجاح الشرع في مهمته لن يكون فقط علامة على انتصار سياسي، بل على نهوض دولة تعيد لمواطنيها الأمل بحياة كريمة ومستقرة في قلب عالم مضطرب.