نتنياهو على حافة السكين: بين انفجار الداخل وصفعات الخارج
م. عمر الشرمان
31-05-2025 01:31 PM
في اللحظة التي تُكتب فيها ملامح مرحلة ما بعد الحرب في غزة، يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه عالقًا بين جبهتين: الداخل المتفجر بالغضب والانقسامات، والخارج المتآكل من الدعم والتحالفات التقليدية. فالرجل الذي لطالما برع في فن المناورة وتكتيكات البقاء، يقف اليوم أمام معادلة بالغة التعقيد، لا تشبه شيئًا من تحدياته السابقة. لم تعد المسألة مجرد أزمة سياسية عابرة، بل تحوّلت إلى صراع كاشف حول بنية الدولة الإسرائيلية ذاتها، ومستقبلها في الإقليم والعالم. وبينما تتصاعد الضغوط من كل اتجاه، تلوح في الأفق أسئلة مصيرية: هل يستطيع نتنياهو الصمود كما فعل مرارًا في الماضي؟ أم أن ساعة الحساب اقتربت، ولم يعد بمقدوره تأجيل استحقاقات الداخل ومواجهة الحقائق القاسية التي تفرضها المتغيرات الإقليمية والدولية؟
الداخل الإسرائيلي لم يعد كما كان. أحداث السابع من أكتوبر التي وحدت الشارع الإسرائيلي مؤقتًا خلف خطاب الانتقام والحرب، لم تلبث أن كشفت هشاشة التماسك المجتمعي، وعمق الانقسامات البنيوية بين التيارات الدينية والعلمانية، وبين من يضعون "الدولة اليهودية" فوق القانون، ومن يطالبون بإسرائيل كدولة ديمقراطية حديثة. عادت "الإصلاحات القضائية" إلى واجهة الصراع السياسي، بعد أن جُمّدت بفعل الحرب، لتكون اليوم رمزًا لانقسام أعمق حول هوية النظام ومستقبله. في هذا المناخ المشحون، يزداد غضب الجنود الاحتياط الذين يشعرون بالخيانة من حكومة تعفي المتدينين من الخدمة، فيما تُساق الأمهات والأبناء إلى معارك لا نهاية لها، ولا أفق لانتصار فيها.
الائتلاف الحاكم، بتركيبته الهشة، بات أشبه بقنبلة موقوتة. شركاء نتنياهو من الأحزاب الدينية واليمينية يرفعون سقف مطالبهم إلى حدود تهدد بتفكك الحكومة، بينما يلوّح القضاء بفتح ملفات الفساد ضد نتنياهو، في توقيت يبدو كأنه محسوب سياسيًا. في ذات الوقت، يعجز نتنياهو عن ترميم صورته كزعيم للأمن، بعدما تحولت الحرب من عملية انتقامية إلى مستنقع سياسي وعسكري، يعجز عن الخروج منه دون ثمن باهظ داخليًا وخارجيًا.
على الجبهة الدولية، الوضع لا يقل حرجًا. العلاقات مع واشنطن تمر بأبرد مراحلها منذ عقود، رغم الصداقة الظاهرية مع إدارة ترامب الجديدة. الضغوط الأمريكية لم تعد تُدار خلف الكواليس، بل باتت تُمارَس علنًا عبر تصريحات، ومقترحات لوقف إطلاق النار، وتهديدات بمراجعة الدعم العسكري، وحتى بالموافقة الضمنية على تحركات المحكمة الجنائية الدولية. التباين بين تل أبيب وواشنطن لم يعد خلافًا في التكتيك، بل أصبح صراعًا في الرؤية: إدارة أمريكية تريد إنهاء الحرب وترتيب تسوية إقليمية تشمل إيران وسوريا وحماس، مقابل حكومة إسرائيلية لا ترى في الأفق سوى استمرار "الردع" و"الاستئصال".
في هذا السياق، لا يمكن فصل المأزق الحالي عن السياق التاريخي الذي نشأت فيه إسرائيل على وقع تحولات كبرى في النظام العالمي. لقد قامت الدولة العبرية من رحم صفقات دولية كبرى بدأت مع الحرب العالمية الأولى، حين منح وعد بلفور شرعية استعمارية لمشروع استيطاني لم يكن ليقوم دون قوة دفع خارجية. وبعد الحرب العالمية الثانية، استكملت القوى الكبرى مشروع قيام الدولة عام 1948، ليُتبَع بمؤتمرات دولية مثل جنيف ومدريد، التي شكّلت محطات لصياغة موازين القوى في الشرق الأوسط. واليوم، ومع انهيار منظومة ما بعد الحرب الباردة، تبدو إسرائيل أمام مفترق طرق مشابه. نظام عالمي جديد يتشكل بصمت وصرامة، وتُطرح على طاولته إمكانية عقد مؤتمر دولي ثالث – ربما في باريس – عنوانه هذه المرة: الاعتراف بدولة فلسطين، لا الدفاع عن إسرائيل. هذا التحول ليس رمزيًا فقط، بل يحمل في طياته دلالات على تبدل ميزان الشرعية الدولي، وانتقال مركز الضغط من دعم إسرائيل إلى مساءلتها، ومن إنكار الحق الفلسطيني إلى إعادة الاعتراف به على الساحة الأممية.
أوروبا من جانبها بدأت تتململ من ازدواجية المعايير. دول مثل إيرلندا وإسبانيا تعترف بدولة فلسطين، بينما ترتفع الأصوات في برلمانات أوروبا الغربية لمساءلة إسرائيل عن انتهاكاتها في غزة والضفة. حتى داخل الأمم المتحدة، تغير المزاج العام: لم تعد إسرائيل قادرة على فرض سرديتها دون مقاومة دبلوماسية متزايدة.
إزاء هذا المشهد، يجد نتنياهو نفسه في وضع لا يُحسد عليه. لا الداخل يحتمل مزيدًا من المماطلة، ولا الخارج يمنحه فسحة جديدة للمناورة. إن قبول نتنياهو مؤخرًا – ولو ضمنيًا – بمبادرة وقف إطلاق النار المدعومة من واشنطن، لم يكن خيارًا حرًا بقدر ما كان تعبيرًا عن خضوع اضطراري لميزان قوى بدأ يتغير. فالحرب التي كانت أداة لتوحيد الصفوف الداخلية، تحولت إلى مرآة تكشف عمق الانقسام، وعجز القيادة، ومحدودية الخيارات.
لم تعد أزمة حكومة نتنياهو مجرّد صراع على البقاء، بل باتت تعبيرًا عن مأزق أوسع يمر به النظام السياسي الإسرائيلي بأكمله. بين أزمة الشرعية، وتفكك التحالفات، وضغوط الخارج، وانقسام الداخل، يلوح في الأفق سؤال مركزي: هل يملك نتنياهو بعد كل هذه المعارك القدرة على الاستمرار؟ أم أن إسرائيل ما بعد الحرب بحاجة إلى عقد سياسي جديد، ورؤية جديدة لمستقبلها في الداخل والخارج؟