facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




بين غياب الدولة وتزييف الوعي .. المخدرات مجددا


جمال القيسي
05-06-2025 09:32 AM

فلنقلها صراحة. في الأردن، لم تعد آفة المخدرات مجرد خطر صحي أو أمني، بل مرآة صادمة تكشف عن فشل معقد في إدارة الدولة لمواردها، وافتقارها لرؤية وقائية تحمي أبناءها. المشهد العام يؤكد لنا "شراسة رسمية" في المواجهة، لكنه يخفي خلف الإنجازات الأمنية المعلنة واقعًا إنسانيا مريرا. طلاب في مقتبل العمر، بعضهم لم يتجاوز عتبة الثانوية العامة، والبعض الآخر من طلبة جامعات تتم مداهمتهم في بيوتهم، تُفتَّش، بفجاجة غير مبررة، غرف بيوتهم على مرأى وسمع إخوتهم وأمهاتهم وآبائهم، تُنتهك كرامة وخصوصية أهاليهم بتصرفات فظة، ويتحول البيت إلى مسرح للانتهاك والاستهانة بالمشاعر الإنسانية إلى حد تحول المشهد نحو السريالية السوداء بدل أن يكون إجراء قانونيا أصوليا مقدرا. من لحظة الاعتقال الأولى، يبدأ مسار الانكسار النفسي العميق؛ فمن تحقيقات خشنة تتولاها الضابطة العدلية في تجاوز لدور النيابة العامة، إلى إجراءات مهينة، وصولا نحو أسئلة تُلقي بثقل جريمة منظمة على ضحية لم يدرك بعد، من هول الصدمة، كيف وقع فيها!

المشكلة لا تكمن فقط في القانون، بل في سلوك الدولة في تطبيقه؛ فالطلبة الذين يسقطون في شرك التعاطي، كثير منهم ضحايا لبيئة مهملة، لفراغ معرفي وثقافي؛ لغياب وعي لم تبادر الدولة لزرعه في المدرسة أو الجامعة أو الحي. تقصير وزارات التربية والتعليم العالي والثقافة ليس تفصيلاً، بل هو أصل الحكاية. لا مناهج تزرع الوعي ولا مبادرات شبابية تنقل المعرفة ولا برامج توعوية تصل الطالب قبل أن تصل إليه العصابة. وسط هذا الفراغ، تشتغل شبكات الترويج بدهاء، تقتنص الفرصة، تستغل الضعف، وتجد جمهورها جاهزًا للوقوع.

لكن الأخطر من ذلك، هو أن يُعامل هؤلاء الشباب الضحايا، المغرور بهم، أو سقطوا نتيجة هشاشة نفسية، كأنهم مجرمون محترفون. تُساق حالات التعاطي الأولى إلى السجن، يُدمجون مع القتلة وأرباب السوابق، يُجرَّدون من هويتهم كطلبة أو أبناء، ويُعاد إنتاجهم كمدانين. لا برامج احتواء، لا مساحات علاج، لا خيارات حقيقية للعفو أو التأهيل. من داخل السجن، يعود الشاب إلى المجتمع لا متعافيًا بل محطمًا، يتضاعف خطره، وتتآكل فرصته في النجاة. هنا لا تبدو الدولة كمن يحمي أبناءه، بل كمن يكتفي بجلدهم بعد أن أهملهم.

التشريعات القائمة، رغم بعض التعديلات، ما تزال قاصرة عن استيعاب الطابع الإنساني والاجتماعي للظاهرة. التعديل القانوني في عام 2021 الذي أتاح للقضاة إحالة المتعاطي لأول مرة إلى العلاج بدل السجن، بقي قرارًا خجولًا على الورق؛ إذ أظهرت بيانات رسمية أن أقل من 8% من المتعاطين الموقوفين تمت إحالتهم لمراكز علاج في عام 2023، فيما تجاوز عدد الموقوفين بقضايا التعاطي أو حيازة بقصد التعاطي 22 ألف حالة في السنة نفسها، بينهم أكثر من 3000 شخص دون سن 21 عامًا.

أما مراكز العلاج، فهي محدودة جدًا؛ إذ لا يتجاوز عدد المراكز المرخصة المتخصصة في علاج الإدمان سبعة مراكز على مستوى المملكة، معظمها في العاصمة عمان، ما يجعل الوصول إليها صعبًا ومكلفًا لسكان المحافظات، وخاصة الفئات الأقل دخلًا. وفي غياب دعم حقيقي أو تأمين علاجي، تبقى أبواب العلاج موصدة بوجه من يحتاجه.

ولا يُمكن تجاهل المفارقة الاقتصادية. بحسب أرقام رسمية صادرة عن وزارة العدل، حيث تتجاوز كلفة السجين في الأردن 8000 دينار سنويًا، تشمل الإعاشة والحراسة والإدارة. في المقابل، تُقدّر كلفة تأهيل شامل (طبي ونفسي، واجتماعي) للمتعاطي في دورة علاج متكاملة بـ 3500 دينار فقط. ومع ذلك، تُفضّل الدولة الخيار المكلف ماديًا والمعطِّل إنسانيًا، على الخيار الأنجع. النتيجة: خسائر مزدوجة. شاب محطم، وأسرة مدمّرة، وسجل قضائي لا يُمحى، وميزانية تُستنزف في إدارة الفشل بدل التنادي لمنع الكارثة!

لا يمكن لأحد أن يبرر التعاطي، ولا أن يدافع عن الترويج، لكن المساواة بين من وقع ضحية الجهل أو الفقر أو الضغط النفسي، وبين من يدير شبكة سموم منظمة، تساوي أخلاقيًا بين القاتل والمقتول. إن الشباب الذين يُساقون إلى السجون هم أبناء مجتمع خذلتهم دولتهم، وتركتهم وحدهم في معركة مع الجهل والعجز والصدفة. كان الأجدر أن يُساقوا إلى العلاج لا إلى العار، إلى الحماية لا إلى الانهيار، إلى اليد التي تنقذ لا إلى القضبان التي تُكمل ما بدأه الغياب الرسمي.

التجارب العالمية الناجحة لا تسوّغ الجريمة ولا تُشجع الانفلات، بل تعيد تعريف الظاهرة كمسألة إنسانية في المقام الأول. في البرتغال مثلا، هبطت نسب التعاطي بنسبة 20% خلال عشر سنوات بعد أن قررت الحكومة في 2001 إحالة المتعاطين إلى وحدات علاج لا محاكم. في هولندا، وُضعت مناهج مبكرة وعقلانية، تُدرَّس منذ المرحلة الإعدادية، فبقي المجتمع محصّنًا معرفيًا. في بعض الولايات الأميركية، كـ أوريغون ونيوجيرسي، تم خفض العقوبة مقابل إجبار المتعاطي على العلاج والتأهيل، فقلّت الجرائم المرتبطة بالمخدرات، وتراجعت نسب العودة للتعاطي بأكثر من 30%.

في الأردن، لا تزال الدولة تُدير (الملف) وكأنها في معركة، لا في أزمة اجتماعية. فها هي تتعامل مع المتعاطي كخصم، لا كمواطن سقط في الغفلة والخطأ. هذه المقاربة لا تحمي المجتمع، بل تُهدد مستقبله. لأن ما نخسره ليس فقط شابًا في زنزانة، بل جيلًا من الثقة، ومنسوبا من الأمل، وحيزا من الأمان قد يتحول إلى التطرف في طرفة عين!





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :