العيد في الأردن .. عطر الذكريات ودفء التآخي وروح الانتماء
د. أسيد مطر
08-06-2025 12:55 PM
حين يهلّ عيد الأضحى على الأردن، لا يأتي كمناسبة عابرة أو فصل مؤقت من مشهد الحياة، بل كعودة محببة لروحٍ غابت قليلًا ثم أقبلت بكامل ألقها. إنه عودة للذات، وللبيت، وللجذور. في هذا العيد، تتجدد الملامح في الوجوه، ويُعاد ترتيب الفرح في القلوب، كأن كل شيء يعود إلى أصله الأصيل: دفء العائلة، صدق المشاعر، وعراقة التقاليد.
تتسلل تكبيرات العيد فجرًا من مآذن المدن والقرى، فيمشط صوتها الجميل المدى، ويغمر البيوت بجوّ من الطمأنينة والسكينة. تفتح الأسر نوافذها على هذا الصوت المحبّب، وتبدأ الاستعدادات لصلاة العيد في الساحات العامة. هناك، حيث تلتقي القلوب قبل الأقدام، تصطف العائلات كما تصطف الأمنيات، ويغدو الحضور أكثر من مجرد أداء، بل هو مشهد إنساني يحمل أسمى قيم الألفة والمشاركة. إنها لحظة تبدأ بالتكبير وتنتهي بالمصافحة، وتتخللها نظرات عميقة تُنبت في النفس شجرة من الود والسلام.
لكن العيد في الأردن ليس فقط ما يُقام في الصباح، بل ما يُبنى في الذاكرة. هو استحضار حقيقي لكل ما مضى وما لا يزال حيًّا فينا. هو رائحة "الكعك والمعمول" التي تبدأ في الانبعاث منذ الأيام التي تسبقه، تلك الرائحة التي تكاد تكون وطنًا قائمًا بذاته، تختلط فيها نكهة السمن البلدي برائحة القهوة السمراء، وتتردد بين الأزقة وكأنها دعوة سرّية للفرح. في المطابخ الأردنية، لا تُعدّ الحلويات فحسب، بل تُنسج خيوط من المحبة العائلية التي تربط الأجيال بعضها ببعض، وتُروى الحكايات التي لا تنطفئ مهما تغيّر الزمن.
يستعيد الأردنيون في العيد وجوهًا أحبّوها، وطرقاتٍ مشوا فيها أطفالًا، وزياراتٍ كانت تقليدًا لا يُمَسّ، مهما ضاقت الأحوال أو كثرت المشاغل. يعود الجدّ ليحكي عن الأعياد الأولى، حين كانت الملابس بسيطة، والفرحة عميقة، والأيدي متشابكة لا تفصلها مشاغل الحياة. وتجلس الجدة تُرتّب حبات التمر بحنان، وتبتسم وهي ترى الأحفاد يعيدون تفاصيل طفولتها في عيونهم وضحكاتهم. كم من تفاصيل صغيرة تختزن في جوفها عظمة الذكريات! حتى قطعة من الحلوى أو فنجان من القهوة قد يحملان في طعمهما حنين سنوات لا تُنسى.
الطفل الأردني لا يعيش العيد فقط كفرصة للعب، بل كتجربة وجدانية تمكث في ذاكرته طويلًا. هو من يضع ملابسه الجديدة تحت وسادته، وينتظر الصباح كمن ينتظر حلمًا أن يتحقق. وهو من يجمع "العيدية" بيديه الصغيرتين، ويخبئها بفخر ككنزٍ لا يُقدّر بثمن. تراه يتنقّل من بيت إلى بيت، ويصافح الكبار، ويأخذ حلوى من هذا وقطعة شوكولاتة من ذاك، فيمسح العيد على روحه ببساطة لا تشوبها شوائب العصر.
أما الحارات الأردنية، فهي قصة أخرى. قبيل العيد بساعات، تتحوّل الأحياء إلى خلايا نشطة. تُنظف الأزقة وتُرشّ الأرض بالماء، وتتسرب رائحة التراب المبتل بعد التنظيف فتملأ الأنفاس بإحساس غامر بالانتماء. رائحة التراب هنا ليست مجرّد أثر للماء، بل رمز للبيوت التي تحب أهلها، وللأرض التي تحتضن الذكريات. إنها الرائحة التي تعود بك سنوات إلى الوراء، حين كنت طفلًا تمشي حافيًا على الإسفلت المبلل، أو تنتظر أن تجف الأرض لتخرج بثياب العيد وتستقبل الزوّار بوجه بشوش ويد نظيفة ممتدة بالسلام.
العيد في الأردن مناسبة تمتزج فيها القلوب قبل الأيدي، وتعلو فيها القيم الإنسانية على أي اعتبار آخر. هنا، لا تسأل عن الدين أو الأصل أو اللهجة. فالأردنيون بطبعهم اعتادوا التآخي، وجُبلوا على النخوة. تجد المسيحي يُبارك لجاره المسلم، وتجد المقيم يشارك أهل الحيّ فرحتهم وكأنه فرد من العائلة. كل بيت يفتح أبوابه، وكل مائدة تفيض بما تجود به النفس. ليس في الأمر مجاملة، بل طبيعة راسخة في المجتمع الأردني، الذي أثبت مرارًا أن المحبة ليست شعارًا بل سلوكًا يوميًّا.
ومع كل عيد، تتجدد أواصر الرحم التي قد تُهملها عجلة الأيام. تعود الزيارات العائلية التي كانت مؤجلة، ويجلس الأحفاد مع الأجداد، وتتعانق الأجيال في جلسات لا تُقدّر بثمن. يُعيد العيد ترتيب العلاقات الإنسانية، ويمنحنا فرصة ثمينة لنتوقف قليلًا وننظر إلى من حولنا بعيون الامتنان. ليس هناك أجمل من لحظة يعود فيها أخ لأخيه، وصديق لصديقه، وأم لابنها الذي طال غيابه.
أما الأضاحي، فهي وجه من وجوه التكافل والمشاركة. ففي الأردن، لا تُمارَس كشعيرة دينية فحسب، بل كرسالة وجدانية من القلب إلى القلب. تشهد الشوارع تنسيقًا وتعاونًا، حيث يحرص الأردني على أن تصل لحوم الأضحية إلى المحتاج والجار قبل أن تصل إلى بيته، في صورة تعكس أن التضامن ليس مجرّد واجب، بل هو فخر وعقيدة عميقة متجذرة في المجتمع.
ولأن الأردن لوحة من الفسيفساء الاجتماعية والثقافية، فإننا نرى مظاهر العيد تتنوع بتنوع مناطقه. فعلى سبيل المثال، في محافظة معان جنوب المملكة، يحمل العيد طابعًا خاصًا لا يشبه إلا ذاته. يتجمّع الناس في الدواوين في صباح العيد، حيث اللقاءات العامرة والمجالس المفتوحة التي تعبق بالكرم الصحراوي العتيق. وتبدأ الاستعدادات لتحضير الأطباق المعانية التقليدية التي يتناقلها الأحفاد عن الآباء والأجداد. فتُطهى المجللة المعانية الغنية بالسمن البلدي إما بالجميد أو البندورة ، ويُقدَّم الرز الحامض الشهير بنكّهته المميزة، وتحضر الفطيرة بالسمن البلدي كتحلية بنكهة لا يخطئها الضيف ولا ينسى طعمها. في معان، لا يكون العيد مكتملًا دون "الكلّ المعاني" الذي يُعدّ بروح المشاركة والتفاخر بالأصول والعراقة. وتبقى الحلويات المحلية، بمذاقها الأصيل، علامة على فرح لا يُصنّع بل يُورث.
في الأردن، العيد ليس توقيتًا محددًا بساعة أو يوم، بل هو شعور داخليّ يتغلغل في النفوس، ويُنعش الذاكرة الوطنية، ويُعيد رسم خارطة الحنين والانتماء. فكل ذرة من تراب هذا الوطن لها رائحة مختلفة في العيد، رائحة مبللة بالتاريخ، بالتضحيات، بالحبّ غير المشروط. والمغتربون، مهما طالت غربتهم، يعرفون هذه الحقيقة جيدًا، فهم يتوقون للعيد لا لأنهم فقط يفتقدون العائلة، بل لأنهم يفتقدون الأردن نفسه… برائحة شوارعه، ودفء صباحاته، وملامح ناسه.
وفي ختام هذا المشهد الإنساني المتكامل، لا بدّ من أن نرفع أكفّ الدعاء والتهنئة والولاء، إلى من زرع في هذا الوطن الأمن، وأرسى دعائم وحدته وتآلفه، حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي يواصل مسيرة من سبقوه في بناء الأردن الذي نفاخر به العالم، وإلى سمو ولي عهده الأمين، الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، حامل الأمل، وصوت الشباب، وراية الغد. ففي عهدهم، تظل المناسبات أكثر جمالًا، والوطن أكثر أمانًا، والفرحة أعمق جذورًا.
كل عام والأردن بخير… كل عام وأعيادنا لقاءات محبة، ووثائق انتماء، ومشاهد لا تُنسى.