مصير "الإخوان" .. بين الرؤية الأمنية والقرار السياسي
جمال القيسي
10-06-2025 09:55 PM
مثّل الكشف الأمني عن خلايا مسلحة تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، في الخامس عشر من نيسان الماضي، نقطة تحوّل حساسة في مسار العلاقة بين الجماعة والدولة الأردنية. إذ لم يكن الإعلان مجرد بلاغ إعلامي، بل تلاه في غضون أيام قليلة ـ وتحديدًا في الثالث والعشرين من نيسان ـ قرار بحظر الجماعة ومداهمة عدد من مقارّها. ورغم ما حملته هذه الإجراءات من دلالات على جدية الدولة في مواجهة التهديد، إلا أن مسار الأحداث اللاحق لم يكتمل كما توقّعه كثيرون.
فالملاحَظ أن الدولة لم تذهب إلى الحدّ النهائي الذي توحي به المعطيات الأمنية، وهو حلّ حزب جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسية للجماعة، رغم أن المزاج العام، والمخزون الإخباري الصادر عن الأجهزة المعنية، كانا يشيران إلى أن طبيعة التهديد تتجاوز النشاط السياسي إلى ما هو أخطر. إلا أن الحوار غير المعلن بين الرؤية الأمنية والقرار السياسي ما يزال، على ما يبدو، مفتوحًا، بدليل أن القضايا المرتبطة بالخلايا المسلحة الثلاث لم تصدر فيها أحكام عن محكمة أمن الدولة حتى الآن، إضافة إلى قضايا لاحقة نُسبت إلى الجماعة بعد مداهمة مقارها.
هذا التعليق المؤسسي في اتخاذ القرار، لا يُقرأ فقط على أنه تردد، بل يمكن اعتباره مؤشرًا على توازن دقيق تحاول الدولة الإبقاء عليه. فالرؤية الأمنية، بحكم خبرتها الميدانية، تقف على معلومات لا تقبل التأويل أحيانًا، وتدرك طبيعة التهديد، ومراحله، وسياقاته التنظيمية. لكنها، في النهاية، لا تملك وحدها مفتاح القرار، الذي يُفترض أن يراعي اعتبارات سياسية داخلية تتعلق بالتماسك المجتمعي، والتوازنات الدستورية، وحتى حسابات المكاسب السياسية الإقليمية والدولية لأي خطوة قد تبدو "استئصالية".
وفي ضوء ذلك، لا تبدو حالة الإخوان اليوم مغلقة على سيناريو واحد. فبينما تستند المؤسسة الأمنية إلى معطياتها في الدفع نحو معالجة حازمة تضع حدًا نهائيًا لمسار الجماعة، يظل القرار السياسي متريثًا، إمّا لاعتبارات تتعلق بتوقيت الحسم، أو لقناعة أن إضعاف الجماعة التنظيمي من خلال الضربات الميدانية والقانونية كافٍ لإخراجها من المعادلة العامة دون الحاجة إلى تصعيد قانوني قد يثير جدلًا أكثر مما يحقق من نتائج.
لكن هذه الاستراتيجية ليست دون كلفة. فالإبقاء على الجماعة أو ذراعها السياسي في حالة "نصف وجود" يفتح الباب لتفسيرات متضاربة لدى الرأي العام، ويفسح مجالًا لإعادة التموضع، بل وحتى لاستدرار تعاطف قد لا يكون في محله. كما أنه يبعث برسالة مضادة للرسائل التي أرادت الدولة إيصالها عبر مداهمة المقار وإعلان الحظر، إذ قد يُفهم هذا التباين على أنه خلاف داخل الدولة، أو ضعف في الإرادة التنفيذية، فيما هو في جوهره حوار داخلي مستمر بين سلطتين داخل النظام: إحداهما أمنية خبيرة لا تصدر أحكامها اعتباطًا، والأخرى سياسية أكثر حذرًا، لا تمضي إلى آخر الشوط إلا حين تتقاطع كل الحسابات.
في هذا السياق، يمكن القول إن الأردن يعيد اختبار النموذج الذي لطالما اعتمده في إدارة العلاقة مع الجماعات ذات الطابع الديني ـ السياسي: لا مواجهة شاملة، ولا قبول كامل. لكن هذه "المنطقة الرمادية" باتت، بعد التطورات الأخيرة، أكثر ضيقًا، وباتت الحاجة إلى قرار واضح، سياسيًا كان أو قانونيًا، تفرض نفسها على أجندة الحكم.
إن ما يجري اليوم بين الرؤية الأمنية والقرار السياسي لا ينعكس فقط على مصير الجماعة، بل يتعداه إلى المشهد السياسي الأردني برمّته. فحالة الانتظار أو "التحفظ المتبادل" بين المؤسستين تولّد نوعًا من الإرباك داخل البيئة الحزبية، وتضع علامات استفهام لدى القوى السياسية الأخرى، التي تتابع باهتمام ما إذا كانت الدولة ستذهب إلى نهاية الشوط في تطبيق القانون على جماعة ثبت ـ من وجهة نظر أمنية ـ ضلوع بعض عناصرها في نشاط مسلح، أم أنها ستكتفي بإجراءات وسطى، تبقي الباب مواربًا أمام إمكانية العودة.
وهذا الغموض في الحسم لا يخلق فقط ارتباكًا تنظيميًا، بل يفتح باب التأويلات حول جدية مشروع التحديث السياسي الذي انطلق قبل سنوات، ومدى قدرة الدولة على رسم حدود واضحة بين ما هو مسموح ومشروع، وما هو ممنوع وخطر. كما أن القوى الحزبية المدنية، التي قبلت بقواعد اللعبة الجديدة، تجد نفسها أحيانًا في موقع المراقب الحذر، وهي تسائل بشكل غير مباشر: هل تكفي المشروعية القانونية وحدها؟ أم أن هناك من لا تزال له امتيازات الاستثناء أو القدرة على البقاء في الظل رغم الحظر؟
الأهم من ذلك أن التردد في حسم هذا الملف، أو تأخير البت فيه قضائيًا، قد يمنح الجماعة وقتًا لإعادة التموضع والتكتيك، خاصة أنها تملك خبرة تراكمية في التكيف مع المتغيرات، بل وصناعة الرمزية السياسية من داخل لحظات الملاحقة والضغط. وهنا، يبدو الرهان الأمني على تفكيك البنية التنظيمية للجماعة من خلال الضربات الموضعية، أكثر جدوى من الرهان السياسي على تفككها الذاتي بفعل الزمن أو الضغط المعنوي.
لا شك أن القرار السياسي الأردني، كما ظهر في هذا الملف، لا يتخذ خطواته بعجالة أو انفعال، بل يستند إلى تقاليد متجذرة في إيثار الاستقرار وتجنّب المواجهات المفتوحة. لكن في لحظات معينة، قد يبدو هذا الحذر السياسي ـ مهما كانت مبرراته ـ أقرب إلى التردد منه إلى الحكمة، خاصة حين تكون المعطيات الأمنية صلبة، والتهديدات لا تحتمل التأجيل.
وفي هذا السياق، يحضر قول الرئيس الفرنسي شارل ديغول: "أخطر ما تواجهه الدولة ليس الخطر ذاته، بل التأخر في تسميته باسمه"!
وهو قول يبدو اليوم أكثر قابلية للتطبيق في الحالة الأردنية، حين تقف الدولة أمام تحدٍّ بنيوي لا يُدار بالأمن وحده، ولا تُحتوى مفاعيله بالتريث فقط.
إن احترام منطق الدولة وتوازن مؤسساتها يفرض أن يظل القرار السياسي هو المظلّة العليا، لكن بشرط ألا يُختزل في إدارة الأزمة، بل أن يكون قادرًا على معالجتها من جذورها، لا فقط احتوائها إلى حين. فالرؤية الأمنية، مهما كانت صرامتها، تظل أداة من أدوات الدولة، لا غاية بذاتها، لكنها أداة لا يجوز تجاهلها حين تشير إلى خطر يتجاوز الخلاف السياسي إلى التهديد البنيوي.
وهكذا، يبدو أن ملف الإخوان اليوم لا يختبر فقط مصير جماعة سياسية دينية، بل يختبر قدرة الدولة على الموازنة بين الصرامة والمرونة، بين المعطى الأمني وتقدير السياسة، بين لحظة الحقيقة وضرورات الانتظار. وفي هذا الامتحان الصعب، تكمن ملامح شكل الدولة القادمة: هل ستكون واضحة في خطوطها الحمراء، أم ستستمر في إدارة التهديدات بمنطق العطف الأبوي والتردد و(الطبطبة)!.