تقليص البعثات الامريكية .. بين فشل المفاوضات واحتمال الضربة الاستباقية
صالح الشرّاب العبادي
12-06-2025 08:19 AM
في خطوة لافتة، أعلنت إدارة الرئيس دونالد ترامب ، عن تقليص حجم بعثتها الدبلوماسية في العراق وبعض دول الخليج ، وهو ما اعتُبر إشارة صريحة إلى دخول المنطقة في مرحلة جديدة من التوتر، تتجاوز طبيعتها الميدانية نحو حسابات استراتيجية أعمق، قد ترتبط بمصير المفاوضات النووية مع إيران، واحتمالات الانفجار العسكري الشامل في حال فشلها.
مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية أكد أن القرار استند إلى “تحليلات محدثة للوضع الأمني”، وهي صيغة دبلوماسية تكشف أكثر مما تُخفي ، إذ أن هذا التقليص لا يمكن قراءته إلا في إطار إعادة تموضع أمني-عسكري استعدادًا لاحتمال انهيار المسار التفاوضي مع طهران، والانتقال إلى مرحلة الضغوط القصوى، وربما ما بعدها.
ما يلفت الانتباه هو تزامن هذه الخطوة مع تصريحات علنية من الرئيس ترامب، قال فيها إنه أصبح “أقل ثقة” بإمكانية التوصل إلى صفقة مع إيران ، هذا التصريح لم يأتِ في فراغ، بل في سياق حملة متصاعدة من التهديدات الإسرائيلية ضد المنشآت النووية الإيرانية، يقابلها رفعٌ تدريجي للهجة الإيرانية بالرد على أية ضربة، سواء جاءت من واشنطن أو تل أبيب.
القرار الأميركي لا يقتصر على العراق فحسب، بل يشمل بعثات أميركية أخرى في المنطقة يجري تقليصها بهدوء، ضمن ما يمكن تسميته الانسحاب الناعم الذي يسبق أي عمل عسكري محتمل، أو يفتح الباب لردود عنيفة متوقعة ، وهذا التكتيك ليس جديدًا؛ فقد استخدمته الإدارات الأميركية السابقة في لحظات ما قبل التدخل، أو خلال الأسابيع التي تسبق تصعيدًا كبيرًا، كما حدث قبيل الحرب على العراق عام 2003، أو قبل الغارات الجوية على أفغانستان في التسعينيات.
من منظور استراتيجي، لا تُخفي واشنطن قلقها من استمرار إيران في تخصيب اليورانيوم بوتيرة متسارعة، وامتلاكها قدرات نووية قد تُترجم فجأة إلى واقع ميداني ، في المقابل، يبدو أن صبر البيت الأبيض بدأ ينفد، وخصوصًا في ظل إلحاح تل أبيب على ضرورة توجيه ضربة استباقية، تحاصر طهران وتقلب الطاولة على مشروعها النووي المتقدم.
إيران، من ناحيتها، ما تزال تحتفظ بقدرتها على الرد من خلال أدواتها الفعلية في الميدان ، ورغم أن نفوذها قد تراجع في لبنان وسوريا ، إلا أن أذرعها ما تزال ناشطة وموثرة في العراق واليمن، وهما مسرحا المواجهة الأرجح في حال انفجر الصراع ، الحشد الشعبي في العراق والفصائل المسلحة ، والحوثيون في اليمن، يمكنهم ضرب القواعد الأميركية، واستهداف المصالح الخليجية والامريكية ، وفتح جبهات فرعية تُربك أي عملية هجومية أميركية أو إسرائيلية ضد إيران.
التحليل الأقرب إلى الواقع هو أن واشنطن باتت تُدرك أن ساحة الشرق الأوسط قابلة للاشتعال السريع، وأن أية شرارة في الملف النووي الإيراني ستشعل جبهات متعددة ، لذلك، فإن تقليص الموظفين ليس انسحابًا من الدور، بل تقليصًا للأهداف السهلة، وتفريغًا للمواقع غير المحصنة، استعدادًا لمرحلة يكون فيها الرد أكبر من أن يُحتوى عبر الخطوط الخلفية.
والسؤال الجوهري الآن ليس: “هل ستقع المواجهة؟”، بل “متى، وأين ستبدأ شرارتها الأولى؟”. فالرئاسة الثانية لترامب تُبدي حزمًا يتجاوز حسابات الإدارات الديمقراطية السابقة، ورغبة واضحة في فرض شروط جديدة على إيران، سواء عبر التفاهم، او الضغوط أو عبر الضربة.
في الخلفية، تقف إسرائيل كعامل ضغط حاسم، تدفع في اتجاه الضربة وتقدم نفسها كشريك جاهز للعمل، ولو دون غطاء دولي ، وهذا ما يُفسر إحساس الإدارة الأميركية بأن الوقت لم يعد يسمح بترف الانتظار، وأن تقليص البعثات جزء من سياسة الردع بالاستعداد، لا بالتراخي.
من المحتمل ان تكون هذه التحركات ضغوط وتحذيرات إلى ايران من أجل الرضوخ لشروط المفاوضات ، لكن المؤشرات السياسية والميدانية تُظهر أن الشرق الأوسط يقترب من لحظة المواجهة ، لحظة لا يَسبقها سوى خطوات لوجستية على الأرض، من بينها إخلاء المقرات، تخفيف الحضور المدني، وتأمين مساحات التحرك العسكري المحتمل.
لقد دخلت المنطقة فعليًا في زمن الصراع الهادئ.. الصراع الذي يُكتب بالتحليلات الاستخبارية، ويُقرأ من قرارات دبلوماسية حذرة، وينفجر فجأة في لحظةٍ ما، حين تنكسر المفاوضات وتتكلم القنابل بدل الكلمات…