قراءة في مشهد المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية من زاوية أردنية
الحرب الدائرة اليوم بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني لم تعد مسألة حدودية أو تصفية حسابات استخباراتية فحسب، بل غدت نقطة تحوّل مفصلية في رسم ملامح الإقليم بأسره. وبينما تتطاير الصواريخ على طرفي الجبهة، يقف العالم العربي، مرة أخرى، في موقع المتفرج، عاجزًا عن التأثير، خافت الصوت، مُقيد الإرادة.
إسرائيل: ما بعد “ضرب البرنامج النووي”
في حال نجاح الكيان الإسرائيلي في تدمير المنشآت النووية الإيرانية، وإخراج القيادة العلمية والعسكرية من المعادلة، فإننا أمام مشهد شرق أوسطي جديد، تُصبح فيه إسرائيل الطرف الأقوى بلا منازع. لن تكون حينها مجرّد كيان احتلال، بل مركز قرار إقليمي يُعيد صياغة معادلات الأمن والسياسة، ويفرض شروط “الاستقرار” وفقاً لمصالحه ومخاوفه، لا استنادًا إلى العدالة أو القانون الدولي.
سيُروَّج حينها لرواية “تحييد الخطر الإيراني” على دول الخليج والعراق وسوريا ولبنان، وتُرفع لافتة “الأمن الإسرائيلي” كأولوية فوق كل اعتبار، ليجد العرب أنفسهم مجددًا، وربما لقرون، تحت وطأة الهيمنة الصهيونية. وسنُساق حينها إلى نظام إقليمي جديد، لا مكان فيه لصوت عربي مستقل، بل خضوع استراتيجي طويل الأمد.
وإذا انتصرت إيران؟
على الجانب المقابل، إن تمكّنت طهران من امتصاص الضربة وشنّ هجوم ساحق ضد الداخل الإسرائيلي، واستهداف مفاعل ديمونا أو المراكز الحضرية الكبرى، فإننا أمام تحوّل لا يقل خطورة. ذلك أن الانتصار الإيراني لن يُترجم فقط بإنهاء “الاحتلال” أو الانتصار على اسرائيل، بل بإعادة رسم الخارطة الأيديولوجية والجيوسياسية، انطلاقاً من سردية “تحرير القدس” نحو تكريس مشروع إقليمي توسعي بقيادة الجمهورية الإسلامية، يعيد انتاج الهيمنة، لا تحرير الانسان.
في هذا السيناريو، يتراجع العرب مجددًا إلى موقع التابع، لا إلى دولة مقاومة، بل إلى منطقة نفوذ إيرانية تُدار عبر أدوات غير رسمية، وواجهات طائفية، وشبكات عابرة للسيادة، على نحو يُعيدنا إلى مشهد الهيمنة بألوان أخرى.
الفشل العربي المزدوج
للأسف، يُمكن تلخيص الموقف العربي بكلمة واحدة: الغياب. غياب المشروع، وغياب الموقف، وغياب المبادرة.
لم نُحسن إدارة العلاقة مع إيران بما يخدم المصالح العربية، ولم ننجح في احتوائها كشريك استراتيجي، بل تركنا ساحاتنا تُستغل من قبل جماعات مسلحة باتت تهدد وحدة الدولة الوطنية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. أن تكون إيران دولة جارة، لا راعية لمليشيات. أن يُفهم في طهران أن معركة العرب مع الصهيونية لا تمر عبر اليمن وسوريا ولبنان، بل عبر القدس. أن تُقنعها العواصم العربية، لو كانت حيّة، أن معركتها الحقيقية يجب أن تُستثمر في دعم الاستقلال لا بناء أدوات الوصاية.
في الوقت ذاته، فشلنا في بلورة موقف موحد تجاه الكيان الصهيوني، ولم تُترجم بيانات الشجب والإدانة إلى استراتيجيات قابلة للتنفيذ. لا حماية للقدس، ولا دعم جاد لغزة، ولا موقف عربي حازم يُجبر المجتمع الدولي على فرض تسوية عادلة وفق مبدأ حل الدولتين.
النتيجة؟ شعوب تعيش تحت نيران الحرب، وأنظمة عاجزة عن صياغة موقف سيادي، وأجيال ستلعن هذا الصمت المريع.
أين موقع الأردن؟
بالنسبة للأردن، لا يمكن التعامل مع هذا الصراع كمجرد تطور خارجي. أي اختلال في التوازن الإقليمي سيطالنا مباشرة، سواء في شكل موجات لجوء جديدة، أو في تهديد أمن الحدود، أو في اشتداد الاستقطاب الإقليمي داخل الساحة الأردنية نفسها.
المطلوب منّا – كدولة تمتلك موقعاً جيوسياسياً حساساً وموقفاً تاريخياً متجذراً في دعم القضية الفلسطينية – هو أن نعيد تفعيل أدوات التأثير الاستراتيجي عبر:
بناء محور عربي عقلاني، يُوازن بين رفض التطبيع غير المشروط ورفض الانجرار إلى مشاريع الهيمنة الإيرانية.
فتح قنوات عقلانية مع طهران، لا من موقع الخضوع، بل من منطلق التأثير الإيجابي في مسار المنطقة، ودفعها نحو التعاون لا المواجهة.
إعادة تعريف دورنا في معادلة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، من خلال استعادة أدوات الضغط الدولي، وتفعيل المسار الدبلوماسي والسيادي بعيداً عن الارتهان لمعادلات الآخرين.
أزمة الخيارات
السؤال الذي يُطرح اليوم في العواصم العربية ليس بين “الهيمنة الإسرائيلية” أو “الهيمنة الإيرانية”، بل أعمق من ذلك:
هل ما زال لدينا خيار ثالث؟ خيار يرفض الوصاية من أي طرف، ويعيد العرب إلى مركز الفعل، لا إلى هامش التبعية؟
الخطر الأكبر ليس في الصواريخ، بل في العجز. ليس في الحرب، بل في غياب الرؤية. وليس في البسطار الصهيوني أو الإيراني، بل في القبول المُسبق بأي بسطار كان
فالخيار ليس بين بسطارين، بل بين الخضوع… أو النهوض.
عقيد ركن متقاعد