حينما يتكلم التراب .. يحكي الوطن
عاهد حسين الصفدي
15-06-2025 05:25 PM
كان يسير وحيدًا، دخل حديقة عامة في الحي الذي يقطنه، وبعد جولة قصيرة وجد مقعدًا فارغًا، جلس وكان يشعر ببعض التعب. فيه شوق لماضٍ ابتعد عنه كثيرًا، وقع نظره على الأرض الطيبة، فرفع رأسه وأغمض عينيه، ثم انحنى تملأ رئتيه رائحةُ ترابِ قريته التي غادرها منذ زمن بعيد، عادت إليه ذكرياتُ الطفولة والصبا في حاراتها، سهولها وحقولها، التي انغمست يداه في ترابها، لعبًا ولهوًا وحبًّا، عندما زرع فيها أشجار الزيتون، مع والده وأمه وإخوانه.
في غربته اكتشف أن الوطن ليس المكان الذي يعيش فيه فقط، إنما الوطنُ يعيش في داخله، فحينما يتكلم التراب، لا يسمعه بأذنيه، بل بالحنين الذي يسكن أعماقه، يحكي أحلام الماضي، التي بناها على أطراف قريته الجميلة، وصوت والده الذي كان يناديه من خلف الأشجار، ممزوجًا مع زقزقة العصافير، ووجه أمه التي كانت توصيه دائمًا، بأن ينتبه لنفسه، ودموعها التي كانت تترقرق على خديها عندما ودعته في المطار.
حينما يتكلم التراب، يحكي له الوطن عن قصص الشهداء، الذين ضمهم في أحضانه، وعطروه برائحة دمائهم الزكية، وبأنه ليس فقط خارطة، مرسومة مخزنة في عقله، الوطن مدرسة، تعلم فيها منذ قدومه إلى الحياة، معاني الصداقة، حب الأهل والجيران، عشق الأرض والإخلاص لها، كفلاح يزرع حقله، كجندي يعشق ترابه ويسيِّج حدوده، كمعلم ينقل المعرفة والعلم لتلاميذه، مثل أبٍ يؤدي رسالته اتجاه أولاده، وأمٍ تَهَبُ حياتَها وحنانها لهم.
الوطن مجد، كبرياء، فخر، شوق، اعتزاز بتاريخ يحتضن قيمَ بطولاتٍ وبناء وإنجازات.
الوطن مئذنة مسجد وأجراس كنيسة، تنادي: حَيَّ على الصلاة.
فما أعظمك يا وطني حينما يتكلم ترابك!