الوحدة الوطنية ركيزة الأمن والاستقرار في وجه الأزمات
أ.د. أحمد منصور الخصاونة
15-06-2025 07:33 PM
في خضمّ الأزمات والمحن، تتجلّى المعادن الحقيقية للأفراد، وتنكشف القيم الراسخة في المجتمعات، كما يظهر الفرق واضحًا بين من يتحمّل المسؤولية ويسعى للبناء، ومن يتهرّب منها ويغرق في الهدم والأنانية. فالمحن ليست سوى اختبار قاسٍ يكشف جوهر الإنسان، ويُميّز الثابت من المتقلب، والمخلص من المتخاذل. إنها لحظة صدقٍ صعبة، تتطلب منا جميعًا أن نكون على قدر التحدي، وأن ننهض بوطننا بكل عزيمة وإصرار، لا أن نخذله أو نتركه عرضة للرياح العاتية. ففي هذه اللحظات، تُختبر معادننا، ويُقاس ولاؤنا، ويُرسم مستقبل أمتنا بأيدينا.
الأزمات كاشفة لا رحيمة؛ فهي تفرز الصفوف بصرامة، وتُظهر المعادن الأصيلة كما تُسقط الأقنعة الزائفة، لتُبيّن من يستحق الثقة ومن يستغل الظروف للتقويض والتفرقة. وفي مثل هذه الأوقات المصيرية، لا يُتاح لنا ترف التراخي أو التهاون، ولا يُغتفر لنا التناحر أو الانقسام، إذ تصبح وحدة الصفّ والتماسك الوطني فرضًا ملحًّا لا بديل عنه، وواجبًا مقدّسًا لا يُؤجّل. فحين تشتدّ العواصف، لا مجال للفرقة أو التفكك، بل يجب أن نكون كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضًا، أو كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.
إنّ التفرقة في وقت الشدائد ليست مجرّد ضعف عابر أو خلاف وقتي، بل هي ثغرة خطيرة يُمكن أن تنفذ منها كل الأخطار المحدقة بالوطن. فكم من شعوب خسرت حاضرها ومستقبلها بسبب النزاعات الداخلية، وكم من دول تهاوت من الداخل قبل أن تصلها يد الأعداء الخارجية. والأمر الأخطر أن من يشعل نيران الفرقة قد لا يدرك أنه يفتح بذلك باب الخراب، وأنه – من حيث لا يعي – يُمكّن الخصوم من النيل من أمن وطنه واستقراره، ويهدد السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية التي هي عماد كل نهضة وازدهار.
وما أكثر ما يُبهج أعداء الأوطان والمتربصين بأمنها حين يرون أبناءها منقسمين، وقد استبدّ بهم التنازع، وتفرّقت كلمتهم، وتوزّعت ولاءاتهم، فصاروا عرضة للتلاعب والاستغلال. إنهم لا يحتاجون إلى سلاح أو غزو مباشر، حين يجدون الانقسام قد تسلّل إلى قلوب الناس، وحين تُخنق أصوات الحكمة وسط ضجيج الخصومة والصراخ. فالأوطان لا تُهدم بالقوة الحربية فحسب، بل بالتخاذل الداخلي، وبتمزيق نسيج الوحدة الوطنية الذي يُعدّ الحصن المنيع ضد كل مكروه.
ولعلّ التاريخ خير شاهد على أن أعظم الهزائم التي أصابت الأمم لم تكن وليدة مؤامرات خارجية فقط، بل بدأت دومًا من تفسخ داخلي، وتراكم خلافات، وتآكل الثقة بين أبناء المجتمع الواحد، مما مهّد الطريق للسقوط والانهيار. في المقابل، فإن المجتمعات التي أحسنت إدارة خلافاتها، وتمسّكت بوحدتها في أحلك الظروف، خرجت من أزماتها أقوى وأشدّ بأسًا، وأكثر وعياً وإدراكًا لأهمية التكاتف الوطني، وأكثر صلابة في مواجهة التحديات المستقبلية.
إنّ الأمم التي واجهت المحن بوحدة صفّ وتماسك إرادة، خرجت منها أصلب عودًا، وأقوى تماسُكًا، وأشدّ تمسّكًا بمبادئها وقيمها الوطنية. بينما تلك التي استسلمت للفرقة، وانشغلت بالصراعات الجانبية بدلاً من مواجهة العدو المشترك، دفعت ثمناً باهظًا، وخسرت من أمنها واستقرارها ما كان يمكن حفظه بقليل من الترفع عن الذات، وكثير من الشعور بالمسؤولية الوطنية.
في هذا السياق، يجب علينا أن نثق كل الثقة بالأجهزة الأمنية والمخابرات وجيشنا العربي، وكذلك بمركز إدارة الأزمات، لأنهم الحصن المنيع الذي يحمي الوطن من كل خطر داخلي وخارجي. لقد أثبتت هذه المؤسسات، عبر تاريخها، كفاءتها وقدرتها على التصدي لكل المحاولات الرامية إلى زعزعة أمننا واستقرارنا، فهي العين الساهرة على حماية الوطن والحصن المنيع الذي لا يسمح لأي تهديد أن يتسلل إلى أرضنا أو يقوض أمن مواطنينا. علينا أن نمنحهم الثقة والحرية الكاملة في أداء مهامهم، وأن ندعم جهودهم دون تدخل أو تردد، فهم يعملون بكل إخلاص من أجل حفظ السلام وضمان استمرار مسيرة البناء والتقدم.
ومن هنا، فإن كل صوت ينادي بالوحدة، وكل مبادرة تسعى إلى رأب الصدع، وكل يد تُمدّ في وقت الشدة لأجل الصالح العام، هي أعمال عظيمة تُبقي الأمل حيًّا، وتُسهم في صيانة الوطن وحمايته، وتعزز مناعة المجتمع ضد كل محاولات الفتنة والفرقة. وفي المقابل، فإن كل من يروّج للفرقة، أو يُشعل نيران الفتنة، أو يُضعف الصف الوطني، إنما يعمل – عن وعي أو عن غير وعي – على تقويض استقرار الوطن وخدمة خصومه، مما يهدد مستقبل أجيالنا القادمة ويعرّض مسيرة التنمية للخطر.
ولا يمكن أن نغفل الدور الريادي والتاريخي الذي قام به الهاشميون، الذين كان لهم السبق في تعزيز روح الوحدة والتلاحم الوطني، وكانوا دومًا رمزًا للثبات والإخلاص والتفاني في خدمة هذا الوطن الغالي. لقد كان الهاشميون ولا يزالون نموذجًا يُحتذى به في الوفاء للوطن، وفي التحلي بالقيم النبيلة التي تجمع بين العدل والحكمة والشجاعة، ويقفون اليوم إلى جانب أبناء الوطن في مسيرة البناء والتنمية.
ونحن اليوم جميعًا، من رئيس الحكومة إلى رئيس البلدية، ومن الوزير إلى العامل في الميدان، مسؤولون عن حماية هذا الوطن والعمل بإخلاص وتفانٍ لإعمار الأرض، وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة. فنجاحنا في هذا الواجب الوطني هو ضمان لمستقبل مشرق ومستقر لأبناء وطننا جميعًا، وهو مقياس حقيقي لمدى التزامنا ومسؤوليتنا تجاه أمانة الوطن وأبنائه.
فلنتذكّر جيدًا: لا يمكن لأي قوة في العالم أن تهزم أمة جبهتها الداخلية متماسكة، وصفوفها موحّدة، وثقتها ببعضها راسخة. أما إن دبّ الشقاق، وخبا صوت الحكمة، وتقدّمت الأهواء على المصالح العليا، فحينها تكون الهزيمة أقرب مما نتصوّر، ويصبح الوطن عرضة للمخاطر التي لا تُحصى.
إنّنا اليوم، في عالم متغير ومضطرب تتكاثر فيه الأزمات وتتبدل فيه التحالفات، وتزداد فيه محاولات زعزعة الاستقرار الداخلي، أحوج ما نكون إلى الوحدة واليقظة الوطنية، وإلى إعلاء مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. وعلينا أن نغرس في نفوس أبنائنا ثقافة التماسك، وأن نربي أجيالنا على أن وحدة الوطن ليست شعارًا سياسيًّا زائلًا، بل هي حياة كاملة، وشرطٌ أساسيٌّ للبقاء والنهوض والتقدم.
فلنكن يدًا واحدة، وصفًّا متراصًّا، وصوتًا عاقلًا في زمن الضجيج والصخب، لأن الأوطان تُبنى بالتكاتف، وتُحفظ بالحب، وتنهض بالعقل والإرادة الصادقة. ولنكن جميعًا حراسًا على أبواب الوحدة، ودرعًا منيعًا في وجه كل من يتمنّى لنا السقوط أو يسعى إلى زعزعة أمننا واستقرارنا، من أجل أن نظل دومًا على العهد، حُماة لوطننا ومجددين لعزّته وكرامته.