هل يوقظ صوت الملك ضمير العالم؟
د. محمد حيدر محيلان
18-06-2025 09:23 AM
عمون- أطلّ جلالة الملك عبدالله الثاني امس من على منبر البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، في خطاب حافل بالدلالات السياسية والرسائل الأخلاقية، مخاطبًا ضمير العالم بلغة واثقة متّزنة، وكلام منطقي وواقعي صريح، ومباشر وجريء ، كما انه يضج اسىً وعتب.
لم تكن كلمات ابي الحسين مجرّد بيان ديبلوماسي أو عرض سياسي مألوف، بل أقرب إلى نداء إنساني يستصرخ القيم الأوروبية التي لطالما تباهت بها وتنافخت تيها وعدالة ونزاهة.
جاءت كلمة الملك مدوية صارخة في لحظة دولية مأزومة، تتزايد فيها المخاوف والتوجسات من انزلاق الشرق الأوسط إلى حرب أوسع، ولهيب منتشر يأكل الاخضر واليابس ، في ظل عدوان اسرائيلي مستمر ومتفاقم على غزة غير منحصر ولا متوقف، وحرب تستعر وتمتد مع إيران، ويتطاير أوارها وقد يقع ويصيب حمى بلدان مجاورة، لم يتردد جلالة الملك في تسمية الأشياء بمسمياتها، ووضع النقاط على الحروف ، غير ابهٍ ولا سائل رضي من رضي وسخط من سخط، محذرًا من "الانحدار الأخلاقي" الذي يشهده العالم، حيث تُنتهك القوانين الدولية على مرأى ومسمع من الجميع، بينما تُستباح حياة الأبرياء تحت ذرائع القوة والسيادة.
جاء صوت ابي الحسين مدوياً وعالياً ينذر من مغبة التمادي في الغي واللامسؤولية والقرارات المتهورة ، قادم من أدنى المشرق العربي وفلسطين… إلى اقصى الضمير الغربي المأفون باللامبالاة وإزدواجية المعايير، ينقل أنات الاطفال وصرخات العجائز
في كلمة جريئة وصادقة، لم يعرض المأساة، بل واجه العالم واصحاب القرار في الدول الكبرى بتسائل استنكاري كبير : أين القيم التي تتغنون بها؟ أين حقوق الإنسان التي تدرّسونها في جامعاتكم؟ ولماذا تُصمت أصواتكم حين تكون الضحية فلسطينية؟ خاطب النواب الأوروبيين وهو يدري انه يطرق باب ضمائر غُيَّبْ ، ويستمطر سحائباً خُلَّبْ.
قال ذلك وهو يضمن السطور، رسالة واضحة صادحة فاضحة : إذا لم تكن أوروبا قادرة على وقف الحرب، فعلى الأقل لا تباركها بالصمت ، وغلق الاذان والعيون والافواه، صم بكم عميٌ يتجاهلون ما يحدث للاطفال والشيوخ والامهات من قتل وحرق وهدم وتشريد.
فالغرب، برأي الملك، على هذا الموقف المريب، لم يعد يملك ترف الحياد الأخلاقي، ولا القرار الرشيد المسؤول ، بل يعتبر شريكًا متورطا في تمويل أو تسليح طرف على حساب آخر، فمن جهز غازيا فقد غزا.
وكالعادة في كل خطب جلالته لم تغب القدس عن الخطاب، بل حضرت بصفتها المحور القيمي للصراع مذكرا بحق الفلسطينين المشروع بدولتهم واراضيهم المغصوبة، ثم أعاد الملك التأكيد على الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، لا من باب الشرعية التاريخية فحسب، بل باعتبارها مسؤولية أخلاقية متجذرة في قيم الهاشميين ودورهم في الحفاظ على المقدسات وصون حماها وكيانها السماوي العريق.
وأكد جلالته مذكرا العالم الغربي بأن الأردن، رغم صِغَر حجمه الجغرافي، لا يزال يتمسك بدوره المحوري كدولة تنتصر لقيم الحق والعدالة والسلام المشرف الذي يعيد الحقوق لاصحابها ويرد المواطن الى وطنه وارضه واهله.
تحدث الملك عبدالله امام البرلمان الاروبي بلغة متوازنة بين التحذير والدعوة الى كلمة سواء، محذراً من توسّع الحرب إلى ما بعد إيران، وقالها بوضوح: "لا أحد يعلم إلى أين ستنتهي حدود هذه المعركة". ثم استطرد جلالته و لم يترك الموقف معلقاً دون أمل في ايجاد حل عادل وكريم فدعا بكلمته إلى دور أوروبي فاعل، لا مجرد وسيط سياسي، بل كمرجعية أخلاقية للعالم، قائلاً: "أنتم بوصلتنا الأخلاقية" مستنهضا الهمم وموقضا الضمائر لعل ذلك يحرك انسانيتهم ويدب فيهم الحمية للانتصار لقضايا الشرق الملتهب بالعدوان الغاشم.
لقد كانت كلمة جلالة الملك بحجم المرحلة والجرح والالم الذي ينتاب المشرق العربي،
وفي التحليل السياسي، يمكن القول إن الكلمة جاءت لترسم خطوطًا حمراء دبلوماسية دون ضجيج ، فهي لم تهاجم أحدًا مباشرة، لكنها وضعت العالم أمام مسؤولياته وراجباته. كانت رسالة مزدوجة: للداخل الأردني بأنها القيادة الهاشمية لا تنسى فلسطين ولا تساوم على القدس، وللخارج الأوروبي بأن صمتكم لم يعد محايدًا بل متواطئًا.
وفي الختام، يمكن القول إن كلمة الملك لم تكن فقط خطابًا سياسيًا، بل شهادة أمام التاريخ. شهادة من قائد عربي لم يتردد في تذكير العالم بأن الكرامة لا تتجزأ، وأن العدل والحق لا يُمنح بالمزاج، بل يُنتزع بالموقف، ولو بالكلمة وذلك اضعف الايمان.