السلام الذي تفرضه القوة أو الخوف لا يدوم أبدًا
الدكتور مراد منصور القداح
19-06-2025 12:58 AM
في مشهد سياسي نادر جمع بين الحكمة والشجاعة، أطل جلالة الملك عبد الله الثاني من على منبر البرلمان الأوروبي، لا بوصفه قائداً لبلد صغير بحجمه، بل بوصفه صوتًا كبيرًا في منطقه، يصدح بالحقيقة وسط ضجيج المصالح واختلال الموازين.
جاءت كلمته لتخترق صمت العالم، وتضعه وجهًا لوجه أمام مسؤوليته الأخلاقية تجاه ما يجري في فلسطين وسائر أرجاء الشرق الأوسط.
لم يكن الخطاب بيانًا دبلوماسيًا تقليديًا، بل كان بمثابة وثيقة إنسانية، تعيد الاعتبار للمبادئ التي قامت عليها الشرائع والقوانين، والتي طالما نادى بها الاتحاد الأوروبي.
لقد سلك جلالته طريقًا واضحًا لا لبس فيه: طريق القانون الدولي، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض ازدواجية المعايير التي تُفرّق بين الضحايا على أساس الهوية أو الجغرافيا.
وكانت غزة، بما تحمله من جراح نازفة، حاضرة بوضوح في الضمير الملكي.
لم يأتِ ذكرها مجازًا، بل كأرض تنزف تحت أنقاض العدوان، وأرواح تُزهق بلا حساب، وأطفال يحاصرهم الموت والجوع في صمت العالم.
لقد وجّه جلالته نداءً إلى ضمير الإنسانية، بأن ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل اختبار أخلاقي للعالم بأسره:
هل ما زال القانون يعني شيئًا؟ وهل بقي للعدالة موضع في حسابات القوة؟
وفي طيات كلمته، كانت القدس حاضرة بكل قدسيتها، لا كرمز ديني فحسب، بل كأمانة تاريخية يتولاها الأردن بقيادة الهاشميين، دفاعًا عن التعايش وحرمة المقدسات، في وجه موجات التهويد والعدوان.
وقد جاءت الرسالة مفعمة بالصدق، متوازنة في طرحها، جريئة في توقيتها، تدعو إلى سلام لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى على العدل والاعتراف بالآخر.
وأشار جلالة الملك إلى ضرورة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط بما يحقق الاستقرار الدائم، مؤكدًا أن المنطقة لا تتحمل المزيد من الصراعات التي تزرع الفتنة وتنذر بحروب جديدة.
وفي هذا السياق، نوّه جلالته إلى خطر التصعيد في المنطقة، لا سيما ما يتصل بالتوترات الإقليمية، محذرًا من أن أي نزاع شامل قد يؤدي إلى تبعات كارثية، تهدد الأمن الإقليمي والعالمي، وتزيد من معاناة الشعوب، خصوصًا في ظل الصراعات المفتوحة التي لا تنتصر إلا للعنف والدمار.
إن هذا الظهور الملكي في البرلمان الأوروبي، ولأكثر من مرة، لم يكن مجرد مناسبة خطابية، بل محطة استراتيجية أعادت التذكير بأن الأردن ليس غائبًا عن مسرح الأحداث، بل هو حاضر بدوره وثوابته.
وقد لمس الحضور في لغة الملك مزجًا نادرًا بين صرامة القانون وحرارة المشاعر الإنسانية، ما أعاد الاعتبار لفكرة أن السياسة يمكن أن تكون جسراً للقيم، لا ساحة لتبرير الصمت والتقاعس.
وما إن أنهى جلالته كلمته، حتى دوّى تصفيقٌ حارّ في القاعة، لم يكن مجاملة بروتوكولية، بل تعبيرًا عن إدراك عميق لما حملته الرسالة من صدق وجرأة وإنسانية.
كان تصفيقًا يعبّر عن اعترافٍ أوروبي بفرادة الصوت الأردني، وبقوة الموقف الذي لم يتخلَّ عن المبادئ في زمن المساومات.
لقد عكس التصفيق إجماعًا وجدانيًا على أن الحق إذا نُطق بصدق، يلامس القلوب قبل العقول، ولو كان في وجه الريح.
بهذا الخطاب، أعاد جلالة الملك ترتيب الأولويات الأخلاقية والسياسية على طاولة أوروبا، داعيًا إلى التحرك العملي لا الاكتفاء بالدعم اللفظي، ومؤكدًا أن الإنسان يجب أن ينحاز إلى ضميره الذي أنتج قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن نداءه لم يكن موجهًا إلى صناع القرار وحدهم، بل إلى الإنسانية كلها، بأن لا سلام يُبنى فوق الركام، ولا أمن يستقر على حساب الكرامة.
خطاب الملك في البرلمان الأوروبي لم يكن مجرد لحظة سياسية عابرة، بل علامة فارقة في الوعي الدولي، ورسالة متجددة بأن الأردن، بقيادته، لا يزال يحمل شعلة الاعتدال، ويقاوم بالقول والموقف كل أشكال الإقصاء والعنف.
لقد قالها جلالة الملك بصوت الحق الذي لا يعلوه صوت:
آن للعدل أن يستعيد مكانه، وللقانون أن يعلو فوق السلاح، وللإنسان أن يكون الغاية لا الضحية.