لقائي مع كونفوشيوس .. حين يتجسّد الفكر في حضارة
د. ثابت النابلسي
19-06-2025 11:24 AM
لم أتخيّل يومًا أن ألتقي بفيلسوفٍ عظيمٍ ككونفوشيوس، ليس لقاءً ماديًا بالطبع، بل ذلك النوع من اللقاءات التي تحدث حين تتجوّل في وطنٍ ما، فتشعر أن روحه حاضرة في كل زاوية، وأن أفكاره ما تزال تنبض في سلوك الناس، وفي طريقتهم في التفكير، وفي منظومة قيمهم الأخلاقية والاجتماعية.
في زيارتي الأخيرة إلى الصين، شعرت أن كونفوشيوس لم يغادرها أبدًا.
بل كان حاضرًا بقوة ، في احترام الناس للنظام، وفي تقديرهم للعلم والمعرفة، وفي مركزية الأسرة، وفي ربط القيادة بالحكمة لا بالقوة.
روح الفيلسوف العظيم ما تزال تؤثّث الفضاء العام الصيني، وتصوغ ملامح نهضته، وترتقي به يومًا بعد يوم في سباق الأمم.
في التاريخ الإنساني، تبرز قلة من الأسماء التي غيّرت مجرى حضارات بأفكارها لا بجيوشها. ومن بين هؤلاء، يقف كونفوشيوس شامخًا كأبٍ روحيٍّ للفكر الأخلاقي في الصين، وملهمٍ لملايين البشر حتى اليوم، رغم مرور أكثر من ألفي عام على وفاته.
لم يكتب مجلدات، لكنه ترك تراثًا خالدًا من الحكمة جمعه تلاميذه في كتابه الشهير "الأقوال" (Analects). دعا إلى الفضيلة، إلى التعليم، إلى إصلاح النفس أولًا، وإلى ربط القيادة بالقدوة، لا بالبطش.
لكن أين مفكرو هذا العصر؟
هذا السؤال لا يُطرح من باب الحنين، بل كصرخة عقل أمام طوفان السطحية، كمرآة تعكس فراغًا فكريًا يملأ المشهد العام. أين فلاسفة اليوم؟
وإن وُجدوا، لماذا لا نسمع بهم؟ لماذا لا يُشكّلون رأيًا عامًا أو تأثيرًا حضاريًا ملموسًا؟
ان الإجابة ليست بسيطة، لكن يمكن الإشارة إلى أربعة أسباب رئيسة:
1. ضجيج الإعلام وصمت الفكر
في زمن المنصات الرقمية، أصبح "الترند" أهم من "الفكرة"، و"المؤثّر" أقوى من "المفكّر". غُيّب صوت الفلسفة تحت ركام من الترفيه والتسطيح.
2. غياب الحاضنة الثقافية والسياسية
في زمن كونفوشيوس، كان الحاكم يبحث عن الحكمة، واليوم كثير من الأنظمة تنظر للفكر المستقل كتهديد. لا مؤسسات ترعى الفكر العميق، ولا إعلام يُمهّد له الطريق.
3. تفتّت المعرفة وتراجع الرؤية الشاملة
المفكر سابقًا كان موسوعيًا، ملمًّا بالدين، والفلسفة، والسياسة، والاجتماع. أما اليوم، فقد تحوّلنا إلى "خبراء متخصصين"، نعرف كل شيء عن نقطة صغيرة، ونجهل الصورة الكبرى.
4. المفكرون موجودون… لكن بلا منبر
نعم، لدينا أسماء عالمية ومحلية تستحق التقدير، لكن منابرهم محدودة.
هل تعرفون نعوم تشومسكي، طه عبد الرحمن، راي داليو، ومالك بن نبي… وغيرهم. وفي الأردن والعالم العربي أيضًا، هناك من يسيرون على هذا الطريق؛ مثل د. إبراهيم بدران، الذي طالما ربط بين العلم والتنمية في أطروحاته، والدكتور أمين محمود، الذي أعاد قراءة التاريخ برؤية معاصرة، والدكتور عمر الرزاز الذي عبّر عن فكر اقتصادي وإنساني إصلاحي يُحسب له في زمن الاضطراب الفكري.
بصوت جريح من المسؤول؟
ربما نحن… نحن الذين لم نعد نقرأ كما كنا، ولم نعد نُنصت لصوت الحكمة كما يجب.
نحن الذين نُعيد إنتاج الشهرة بدلاً من الفكرة، ونتعامل مع المفكر ككائن منقرض، لا ضرورة لوجوده.
فلنُصغِ من جديد...
نحن لا نحتاج إلى أن نُقدّس المفكر، بل أن نستلهم منه.
أن نُعيد للفكر مكانته في توجيه القرار، وأن نُدرك أن الأخلاق لا تُفصل عن السياسة، وأن الإنسان لا يكتمل بالعلم وحده، بل بالحكمة أيضًا.
فلعلّ فينا كونفوشيوس صامت… ينتظر من يُصغي له.
مقولتي في الختام
"في زمنٍ تهاجر فيه الحكمة من القرار، نحتاج إلى أن نُعيد الإنسان إلى مركز المعادلة، لا بصفته أداة إنتاج، بل غاية أخلاقية".