facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الملك .. الدبلوماسية الأخلاقية وحدود الفعل السياسي


أ.د وفاء عوني الخضراء
19-06-2025 12:11 PM

وقف جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين أمام البرلمان الأوروبي، ليس لإلقاء خطاب سياسي تقليدي، بل ليقدّم مرافعة أخلاقية عميقة تُعيد تعريف الدبلوماسية الأخلاقية عالميًا وترسم حدود الفعل السياسي في ظل المناخ السياسي الراهن لتحاكي ضمير الإنسانية جمعاء ولتنادي: "الأخلاق أولًا"، في سياقً عالمي يشهد تراجعًا مقلقًا في المعايير الأخلاقية وتطبيعًا متزايدًا لازدواجية المواقف.

حمل الخطاب رسالة واضحة ومباشرة: من دون إطار أخلاقي عالمي مشترك، ستظل المنظومة الدولية عاجزة عن إحقاق الحق، وسيبقى ما يحدث في غزة شاهدًا صارخًا على فشل أخلاقي يتجاوز حدود الفعل السياسي، ويهدّد القيم التي يفترض أن توحّد العالم لا أن تفرّقه.

جاء خطاب الملك مشبعًا بالتأملات التاريخية، فاستحضاره لتجربة أوروبا في الحرب العالمية الثانية ذكّر العالم وبشكل غير مباشروضمني بأن الحروب المدمّرة التي شهدتها القارة لم تكن فقط نتيجة لصراعات سياسية أو مصالح آنية، بل نتاج خللٍ جوهري في منظومة القيم والأخلاق. أراد الملك من خلال هذا الاستذكار أن يُعيد إلى الواجهة الدرس الذي تعلّمته أوروبا آنذاك، حين قرّرت أن لا تكتفي بإعادة بناء مدنها المهدّمة، بل أن تؤسس لركائز أخلاقية وقيمية تكون حجر الأساس في مستقبلها المشترك، مبنية على الكرامة، والتعاون، واحترام القانون.

لقد ذكّر العالم بأن القيم لا تُرفع بوصفها شعاراتٍ في أوقات الراحة، بل تُختبر في لحظات الشدة: "عندما لا تُمارَس القيم، تصبح مجرد أداءٍ شكلي، ومجردة، وقابلة للاستغناء عنها".

في قلب خطابه، كانت غزة حاضرة بوضوح، حيث عبّر بزخم أخلاقي عن مأساة إنسانية باتت تُعامل كأنها واقعٌ اعتيادي. أشار إلى نحو 700 إعتداء على منشآت الرعاية الصحية في غزة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تمر دون اكتراث، وأطفال يتضوّرون جوعًا، وصحفيون يُستهدفون، وعائلات تُهجَّر، وسط صمت دولي مقلق. وفي لحظة تأمل أخلاقي عميقة، وجّه الملك سؤالًا للعالم: "كيف عندما كان كل هذا يُعدّ جريمةً مروّعة قبل 20 شهرًا فقط، أن يصبح اليوم أمرًا عاديًا لا يُحرّك ساكنًا؟"

قدّم درسًا أخلاقيًا بإمتياز، حين عبّر بوضوح عن رفضه للصمت الدولي والانتقائية في المواقف. فالدول التي طالما رفعت شعارات حماية النساء والفتيات والأطفال وذوي الإعاقة، تبدو اليوم عاجزة أو غير مبالية أمام معاناة النساء والفتيات والأطفال وذوي الإعاقة في العدوان الإسرائيلي على غزة. هذا التناقض المؤلم سلّط الضوء على أزمة في المنظومة الأخلاقية الدولية، حيث قال الملك: "ما يحدث اليوم في غزة يُنافي القانون الدولي والمعايير الأخلاقية والقيم المشتركة."

استحضر تجربة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حين اختارت أن تبني مستقبلها على الكرامة لا الهيمنة، وعلى سيادة القانون لا منطق القوة، فأسّست نظامًا قيميًا جديدًا تجاوز الدمار نحو المصالحة. واليوم، كما أشار الملك، على العالم أن يستلهم تلك الروح ويطبّقها بعدالة وبدون تحيّز. فغزة، في خطابه وموقفه الثابت، ليست مجرد مأساة إنسانية، بل هي "اختبارٌ للضمير العالمي، ومعيارٌ لما نحن عليه، وما نطمح أن نكونه."

ما يمنح الخطاب شرعية أخلاقية مضاعفة هو أنه لا يصدر من فراغ، بل يستند إلى تجربة وطنية عميقة الجذور. فالأردن، رغم موقعه الجيوسياسي الحساس في قلب منطقة تعصف بها الأزمات، لم يتراجع يومًا عن التزامه الإنساني. على مدى عقود، استقبل لاجئين من فلسطين، وسوريا، والعراق، واليمن، متحمّلًا أعباء تفوق إمكانياته. واليوم، يُعدّ الأردن من أعلى دول العالم نسبةً لعدد اللاجئين مقارنة بعدد السكان، ما يجعل مواقفه الأخلاقية امتدادًا طبيعيًا لمسيرته العملية في التضامن الإنساني.

ورغم التحديات الاقتصادية الخانقة، حافظ الأردن على ثبات مبادئه، متمسكًا بسياسة عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ومؤمنًا بحق كل دولة في سيادتها واستقلال قرارها. كما ظلّ إلى جانب أشقائه في أوقات الأزمات، داعمًا ومساندًا دون شروط أو مصالح ضيقة، في موقف يعكس التزامًا أخلاقيًا عميقًا تجاه الاستقرار والتضامن العربي.

وعلى الصعيد الداخلي، شكّل الأردن على الدوام نموذجًا يُحتذى في التعايش الديني، حيث يعيش المسلمون والمسيحيون جنبًا إلى جنب ضمن نسيج اجتماعي متماسك يقوم على الاحترام المتبادل والمواطنة الجامعة. وقد أشار جلالة الملك في خطابه إلى موقع معمودية السيد المسيح في المغطس، مؤكّدًا أن المملكة تضطلع بدور تاريخي في رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف.

وهو دور لا يقتصر على البُعد الرمزي، بل يُجسّد التزامًا راسخًا ومتجذرًا في التاريخ، كرّسته الأسرة الهاشمية على مدى قرون، انطلاقًا من مسؤوليتها الدينية والتاريخية.

وفي استحضار تاريخي لافت، استشهد بميثاق الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كفل للمسيحيين حماية كنائسهم وكهنتهم، مقتبسًا قوله: "وبعد ألف عام، كرّست اتفاقيات جنيف هذه المبادئ عالميًا." من خلال هذا الربط بين الماضي والحاضر، يبرز تأكيد الملك على أن القيم الإسلامية الأصيلة لم تكن يومًا غريبة عن المنظومة الأخلاقية الإنسانية، بل كانت في صميمها، تؤسس لمفاهيم العدل والرحمة وحماية الإنسان بمعزل عن معتقده أو هويته.

ما يُميّز الخطاب ليس فقط صدقه الأخلاقي، بل شجاعته في قول ما لا يقوله غيره.، إذ في الوقت الذي يختار كثيرون الصمت أو المواربة وعدم مواجهة الحقائق، يواصل الملك قرع جرس الضمير العالمي. "نحن اليوم عند مفترق طرق جديد في التاريخ، علينا أن نختار: القوة أم المبدأ، حكم القانون أم حكم القوة، الانحدار أم التجديد"، فقد قالها بجرأة ومسؤولية.

وفي قوله: "لن يتحقّق أمننا المشترك ما لم يتحرّك المجتمع الدولي، ليس فقط لإنهاء الحرب المستمرة منذ ثلاث سنوات في أوكرانيا، بل أيضًا لوضع حدّ لأطول وأشدّ النزاعات تدميرًا في العالم.. والممتدة منذ ثمانية عقود"، يركّز جلالة الملك من خلال هذه العبارة على المفارقة الصارخة في تعامل المجتمع الدولي مع الأزمات، حيث يُحشد الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي لإنهاء الحرب في أوكرانيا، بينما يُقابل العدوان على فلسطين، وخاصة في غزة، بصمت أو تقاعس مزمن. يوجّه رسالة بليغة تعبّر عن خلل في ترتيب أولويات العالم، وتدعو إلى توحيد المعايير وتطبيقها على جميع الشعوب دون انتقائية أو تمييز.

في حقبة يزداد فيها الضجيج وتغيب فيه البصائر، يكون للصوت الحكيم وزن الذهب وللموقف الأخلاقي ضوء البوصلة في الظلام. خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني يذكّرنا بأن القيم ليست ترفًا خطابيًا، بل رصيد الأمم في لحظات الاختبار. فكما تُعرف الشجرة من ثمارها، تُقاس الدول بمواقفها عندما يُمتحن ضميرها وحسها الإنساني، لا في أوقات الاستقرار، بل عند اشتداد الأزمات واتّساع الألم.

وحين تعلو لغة الإنصاف على لغة الاصطفاف، وحين نُقدّم المبدأ على المكسب، نكون قد بدأنا نرسم ملامح عالم أكثر إنسانية. فالأمم لا تُقاس بما تملكه من قوة، بل بما تتمسك به من مبادئ وأخلاق حين تمتحنها الشدائد. فهو الحصن الأخير في وجه الكراهية والنفاق والظلم.

حكمة من الشرق وصوت من الأردن يحرك الضمير العالمي.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :